قيمة السياسة في فلسفة حنا آرنت
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة السياسية
منظرة وباحثة سياسية من أصل ألماني قرَّرت الابتعاد عن الفلسفة بعد أن درستها ووضعت حدودًا بينها وبين السياسة، وحذَّرت أيضًا من خطر الفلسفة على المجال السياسي، ولكن صاغت -عن طريق فلسفتها- رؤيةً تدور حول الحاجة الإنسانية إلى الحياة العامة والحرية، والسياسية على وجه الخصوص، وكانت من أكثر المفكرين والسياسيين تأثيرًا ونفوذًا في القرن العشرين، ولهذا كان السؤال الدائم الذي تتعامل معه آرنت باستمرار هو: "ما طبيعة السياسة والحياة السياسية؟".
إن طرح آرنت مرهون بإعادة بناء طبيعة الوجود السياسي بما يحفظ للإنسان حريته وقيمته الوجودية دون أن يُمارس عليه أي نوع من التهميش أو التجريد من هويته.
وهذا السعي المستمر نحو المنحى السياسي -كونها قضية وجودية- يُنسب إلى تأثُّرها بالفيلسوف الألماني هيدجر والفيلسوف كارل ياسبرز الذي درست معه في جامعة هايدلبرغ "Heidelberg University"؛ وهو أستاذها الذي أشرف على مشروع تخرجها، وهو الذي جمعتهما علاقة فكرية طويلة الأمد.
في العام 1958؛ نشرت عملها "حالة الإنسان المعاصر" الذي يُعدُّ من أهم أعمال آرنت، وتناولت فيه دراسة فلسفية أصيلة للوجود الإنساني إضافة إلى عملها الذي نُشر عام 1951 "أصول الشمولية"؛ وهو عبارة عن دراسة مفصَّلة للأنظمة الشمولية مثل النازية والستالينية وتحليلها، وهو الذي بدوره أثار جدلًا واسعًا فيما يخصُّ طبيعة سوابق ظاهرة الأنظمة الشمولية، واستمرت في تطوير مفاهيم فلسفية سياسية جديدة تضيء على الحالة الإنسانية وقيمتها وكيفية توفير رؤية فلسفية لطبيعة الحياة السياسية.
ينال الإنسان قيمته -حسب فلسفة آرنت- عن طريق مجموعة من الأنشطة الاجتماعية "المشاركة في ساحة سياسية عمومية والقدرة على خلق بداية جديدة والنشاط الاجتماعي المؤثّر" وهي التي تُعدُّ ضرورية من أجل حياة إنسانية متكاملة، وكل منها يسهم في تمييز الإنسان عن الحيوانات "التي تشبهنا فقط من حيث حاجتها إلى العمل بهدف الاستمرار"، إلّا أن آرنت صاغت سمتين رئيستين لمفهوم العمل: الحرية والتعددية.
· الحرية: ولا تقصد بها قدرة الاختيار بين مجموعة من البدائل، أو الحرية الليبرالية؛ بل حرية القدرة على البَدء من جديد دائمًا بما هو غير متوقع، وهو الذي يجب أن يتمتَّع به جميع البشر بحكم الولادة، بحيث أن كل ولادة تُمثِّل بداية جديدة لإدخال الحداثة إلى العالم والمحافظة على صفة العمل، وتُشدِّد آرنت على صفة هذه البداية على أنها يجب أن تكون دائمًا قادرة على صنع ما هو غير متوقع وبعيد الاحتمال، لأن كل إنسان استثنائي ومتميِّز عن غيره يستطع أن يأتي بشيء جديد إلى العالم. وتربط آرنت مفهوم البداية الجديدة في مناقشة أمثلة ملموسة للعمل، مثل الثورات والانتفاضات الشعبية التي تطالب بالحرية والتغيير والاعتراف بهويتهم وحق المواطنة ليوفروا مساحة عامة وسياسية جديدة يمكن أن تظهر فيها الحرية قيمةً دنيويةً واقعيةً.
· التعددية: هي صفة العمل المركزية الأُخرى؛ لأنه إذا كانت الصفة الأولى "الحرية" تعني المبادرة نحو بداية جديدة دائمًا وإضافة ما هو غير متوقع إلى العالم، فهذا يعني أنه لا يمكن فعل ذلك بمعزل عن الآخرين والحياة السياسية؛ أي بوجود عدد وافر من الأفراد المختلفين في وجهات النظر الذين عن طريقهم يُمكن الحكم على نوعية ما يجري، ولهذا قيمة العمل تحتاج دائمًا إلى التعددية والبيئة السياسية لتكتمل، ومن الأمثلة على ذلك هو عمل فناني الأداء والجمهور، فلا يُمكن أن يكون هناك قيمة لعمل فني ما دون أن يُجابِه آراء الآخرين وأقوالهم.
ثم إن فقدان هاتين الميزتين "الحرية، والتعددية" وعدم تحقق صفة العمل؛ قد يلغي تميُّز الإنسان عن الحيوان، ومثال على هذا المفهوم تجادل آرنت حالة العبودية التي لا تسمح للإنسان بالحصول على قيمته السياسية والاجتماعية أو حريته في افتعال بدايات جديدة وغير متوقعة، وعلى هذا المنوال تُجرِّد الإنسان من قيمته الوجودية؛ لهذا يجب أن تكون صفة العمل أنه إنساني واضح وليس حيوانيًّا مُستعبدًا ليُصنَع العالم الدائم والوجود الجماعي.
مفهوم آرنت للمواطنة:
· المجال العام: يشمل بعدين متميزين لكن مترابطين؛ الأول هو الحصول على فضاء من الحرية السياسية والمساواة ينشأ عندما يتصرف المواطنون في تناسق عن طريق التعبير والإقناع، وهذا ما يوفّر لهم المساحة التي يُمكن أن تزدهر بها المواطنة. والثاني هو عالم مشترك من المؤسسات والتنظيم الإداري الذي يوفِّر سياقًا دائمًا ليمارس المواطنون نشاطهم العملي، ويبني خلفية تنظيمية مستقرة دائمًا؛ مما يسمح للمواطن ممارسة نشاطه وعمله بكامل الحرية. وأثَّر هذا الطرح للفيلسوف آرنت في نظرية المواطنة الديموقراطية، ولدى آرنت فإن إعادة تنشيط حق المواطنة في العالم الحديث يسهم في خلق العديد من مساحات الحرية التي يمكن للأفراد فيها الكشف عن هوياتهم والسعي إلى التكاتف الاجتماعي.
· الجودة وأهمية الحياة العامة: حيث وجود الأنشطة السياسية في المجتمع التي تسمح للمواطنين مقابلة بعضهم البعض ومناقشة خلافاتهم وتبادل آرائهم والبحث عن حل جماعي لمشكلاتهم، وهذا ما يُشكِّل السمة الثانية من المواطنة؛ إذ ترى آرنت أنه لا يكفي أن يكون هناك مجموعة أفراد يصوتون على نحو منفصل ومجهول وفقًا لآرائهم الخاصة؛ بل يجب أن يكون هؤلاء الأفراد قادرين على مقابلة بعضهم في الأماكن العامة من أجل الالتقاء في فضاء سياسي عام لتظهر خلافاتهم وقواسمهم المشتركة، وهكذا يصبحون موضوع نقاش ديمقراطي.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا