نظرية المعرفة (التبرير الإبستمولوجي)
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
# التبرير الاستنتاجي
أن يكون لدينا تبرير لمعتقداتنا يعني أن تكون لدينا أسباب منطقية ومعقولة هي التي دفعتنا للاعتقاد بصحة تلك المعتقدات. لكي يكون المعتقد مبرّراً، يجب أن يكون مستنتجاً أو مُستقى من تبرير آخر. هذا النمط من التبريرات يسمّى بالتبريرات الاستنتاجية. ويبدو أنّ هناك ثلاثة شروط أساسية يجب أن تتوفّر في المعتقد لكي يكون مبرّر استنتاجياً.
أولاً، يجب أن تكون هناك فكرة أو عدّة أفكار تدعم ذلك المعتقد. هذه الفكرة أو الأفكار الأخرى ليست بحاجة للتأسيس لصحّتها، بل يجب أن تفترض درجة معينة من الدعم لمعتقدنا، يجب أن تشير إلى أنّ المعتقد مرجّح أو محتمل. فمن دون فكرة مؤكّدة أو داعمة، لايمكن أن يكون هناك تبرير استنتاجي.
ثانياً، يجب علينا أن نعتقد أنّ هذه الفكرة الأولية صحيحة ونسلّم بذلك. لايكفي للتبرير الاستنتاجي أن تكون هناك فكرة أخرى تدعم معتقداتنا، فإذا كنا نظنّ أن تلك الفكرة الأخرى خاطئة عندها قد لا تقدم لنا أي فائدة في دعم معتقداتنا. لذلك فالتبرير الاستنتاجي يتطلّب وجود فكرة داعمة يُعتقد بصحتها.
ثالثاً، يجب أن يكون لدينا سبب كافٍ لللاعتقاد بأنّ هذه الفكرة الداعمة صحيحة. أمّا إذا اعتقدنا بصحة الفكرة بدون أي سبب معقول كافٍ، عندها ستنتقل هذه اللاعقلانية إلى اعتقادنا الرئيسي ليسقط ويتداعى، أي معتقد لايمكن أن يكون مبرراً إلا إذا كان هناك معتقد آخر مبرّر يقوم عليه. ولكي يكون أي معتقد مبرر استنتاجياً، يجب أن يكون قائماً على أساس فكرة يعتقد بصحّتها ومبرّرة.
هناك ثلاث نظريات أساسية في التبرير، هي: التأسيسية، التماسك أو التناغم، والمصداقية.
# التأسيسية
لو أخذنا عملية التبرير المعرفي ضمن إطار استنتاجي، أي ضمن سياق مبرّر عن طريق كونه مستوحى أو مُستَنتَج مع معتقدات مبرّرة أخرى، عندها سنواجه مشكلة: حسب وجهة النظر هذه، لكل اعتقاد مبرّر يجب أن يكون هناك اعتقاد مبرّر آخر واحد على الأقل يمكن أن يستند عليه، والذي بدوره يجب أن يكون مستنداً على اعتقاد مبرّر آخر واحد على الأقل، وهذا بدوره يجب أن يقوم على اعتقاد مبرّر آخر قبله، وهكذا إلى ما لانهاية. إذا كانت جميع معتقداتنا مبرّرة بهذه الطريقة، عندها لابد أنّ هناك سلسلة طويلة لامتناهية من المعتقدات المبرّرة.
هذه النتيجة التي نتجت عن هذه الفكرة أنّ جميع معتقداتنا مبرّرة استنتاجياً قد صدمت بعض الناس بوصفها فكرة غير معقولة، بل وغير متناسقة أو متماسكة أيضاً. مع أنّ الكائنات البشرية ذكية، لكنّ ذكائها محدود: لايبدو أنّنا نمتلك القدرة أو القابلية على التعامل مع السلاسل اللانهائية من النتائج. وباتت إشكالية تفادي هذه النتيجة التي لامناص منها تعرف باسم "مشكلة نكوص التبرير".
والتأسيسية عبارة عن ردّ لهذه الإشكالية، محاولة لتفادي نكوص التبريرات والرجوع اللانهائي فيها.
يسعى التأسيسي لتفادي مشكلة النكوص والرجوع اللانهائي عن طريق افتراض وجود معتقدات "أساسية" أو "رئيسية". المعتقدات الرئيسية أو الأساسية هي المعتقدات التي تعتبر أنّها الأساس، وهي معتقدات مبرّرة لكن ليس بطريقة استنتاجية، أي أنّها مبرّرة لكن من دون أن تكون مستنتجة من معتقدات أخرى سابقة لها. وبما أنّ المعتقدات الأساسية مبرّرة، فهي قادرة على تأكيد وتبرير المعتقدات الأخرى التي يمكن استنتاجها منها. وبما أنّ المعتقدات الأساسية مبرّرة بطريقة لا استنتاجية، فإنّها تحول دون الرجوع في التبريرات إلى ما لا نهاية، فنحن لسنا بحاجة لافتراض سلسلة لانهاية من المعتقدات المبرّرة التي يمكن أن تقوم عليها المعتقدات الأساسية، لأنّ المعتقدات الأساسية مبرّرة بذاتها، وبهذا فهي لاتحتاج إلى أي سلسلة من التبريرات السابقة لها.
حسب وجهة النظر التأسيسية، إنّ التبرير لكافة معتقداتنا مستوحى في النهاية من المعتقدات الأساسية التي تظهر بوصفها أساس كل ما نعرفه.
# المعتقدات الأولية لامعنى لها
يعتبر مفهوم "المعتقد الأولي" من المعتقدات الرئيسية في الاتجاه التأسيسي. يرى التأسيسيون أنّ هناك معتقدات أولية غير مبرّرة استنتاجياً. هذه المعتقدات يفترض أنّها توقف سلسلة النكوص والرجوع في التبريرات، وتمثّل المصدر النهائي لتبرير أي شيء آخر نؤمن به. بعض نقّاد التأسيسية يجادلون أنّ فكرة المعتقدات الأولية بحدّ ذاتها لامعنى لها.
بالنسبة لأي معتقد لكي يكون مبرراً، يجب أن يكون هناك سبب معقول وكافٍ للاعتقاد بصحّته، وهذا هو جوهر العملية التبريرية. لذا فالمعتقدات الأولية، بما أنّها معتقدات مبرّرة أصلاً، يجب أن تتميّز ببعض الخواص والميّزات التي تجعل منها معتقدات مبررة.
لكي يبرّر أي شخص قبوله باعتقاد معيّن، عليه أن يكون قادراً على إيجاد السبب الذي يبرّره. لايكفي لتبرير معتقد ما وجود سبب جيدّ للاعتقاد بصحّته، فعلى المؤمن أن يدري ويعرف أنّ هناك سبب جيد وكاف للاعتقاد بصحّة ذلك المعتقد. لذا، لتبرير أي معتقد أولي، على المؤمن أن يعرف أن معتقده الذي يؤمن به يمتلك هذه الخاصية، وأنّ هذه الخاصية تزيد من احتمال أن يكون المعتقد صحيحاً.
في تلك الحالة، لن يكون ذلك المعتقد أولياً، إذ أنّه سيكون مُستنتجاً _مبرر استنتاجياً_ من خلال معتقدات أخرى تمتلك نفس الخاصية، وهذه المعتقدات الأخرى يُعتقد أنّها صحيحة أيضاً. إنّ الرجوع في التبريرات إلى الوراء والذي كان من المفترض أن تضع له المعتقدات الأولية حد، سيستمرّ إلى ما لانهاية.
إذا كان هذا صحيحاً، وكان ن غير النطقي وجود أفكار ومعتقدات أولية، عندئذٍ علينا رفض النوعة التأسيسية من أساسها.
# المعتقدات الأولية لا تدعم مجموعة معتقدات مفيدة
يقول العقلانيون التأسيسيون أنّ جميع معارفنا ومعتقداتنا مستقاة في النهاية من الحقائق المنطقية والرياضية، على غرار "2+2=4" و"لايمكن أن يكون الشيء أخضر وأحمر في آنٍ معاً".
ويقول التجريبيون التأسيسيون أنّ جميع أفكارنا ومعتقداتنا مستوحاة في النهاية من خلال التجربة، كالمدركات الحسية التي تصل إلى أدمغتنا عن طريق عصي الألوان الموجودة في عيوننا، أو عن طريق الإدراك والوعي المباشر لأفكارنا.
في كلتا الحالتين، هذا غير كافٍ لتأسيس أرضية تدعم أي معتقد كمجموعة المعتقدات التي يمتلكها أيٌ منا. وبالتحديد، هذا غير كافٍ لتأسيس أرضية تدعم أياً من معتقداتنا التجريبية حتى رؤيتنا الواسعة للعالم الخارجي وطريقة عمله.
نحن لدينا معتقدات عن مكان وجود الأهرامات أو برج إيفل أو تمثال الحرية، لدينا معتقدات عن تاريخ سوريا مثلاً، وعن بنية الذرة وعملية التركيب الضوئي. ولا معتقد من هذه المعتقدات ينبع عن المعتقدات الأولية كما تراها النزعة التأسيسية. إنّ حقيقة أني قد اختبرت اللون الأحمر وجميع الحقائق الرياضية والمنطقية مجتمعةً مع بعضها لاتستلزم وجود أي شيء لونه أحمر في العالم على الإطلاق.
كل ما يمكننا تبريره من خلال المعتقدات الأولية التأسيسية هو المعتقدات ذاتها التي قلنا عنها أنّها أولية.
تقول التأسيسية أنّ هناك بعض المعتقدات التي لاتحتاج لأي تبرير خارجي. هذه المعتقدات مبررة، حتى بدون أي سبب آخر يدفعنا للاعتقاد بصحّتها.
والحال، أننا إذا قبلنا بفكرة أنّ بعض المعتقدات أساسية، ولا تحتاج لأي مبرّر خارجي ليبرّرها، عندئذٍ هناك خطر من أنّ أي أحد يسعى للدفاع عن أي فكرة أو معتقد مثير للجدل سيكون قادراً على القيام بذلك عن طريق الزعم أنّ ذلك المعتقد أولي وصحيح.
يرى التأسيسيون أنّ جميع المعتقدات غير الأولية مبرّرة في النهاية كونها مستنتجة من حقائق أولية. فإذا لم نكن قارين على انتقاد المعتقدات الأولية عند شخصٍ ما، عندها فإنّ أي وجهة نظر مستنتجة منها ستبدو مبرّرة. وهذا من شأنه أن يجعل أي وجهات نظر نعتقد بلاعقلانيتها ولامنطقيتها تبدو كمعتقدات مبرّرة معرفياً/إبستمولوجياً، وستكون النهاية غير سارة.
ملاحظة أخيرة وهي أنّنا لا نستطيع تجاهل هذه النتيجة من خلال تقديم أسباب لتفضيل مجموعة من المعتقدات الدينية على أخرى (كتفضيل مبادئ المنطق والرياضيات على مبادئ علم التنجيم). النقطة الرئيسية هنا هي أنّ المعتقدات الأولية مبرّرة أصلاً، وأننّا لسنا بحاجة لتقديم أسباب مقنعة لاعتناقها وتبنّيها. فإذا حاولنا تبرير معتقداتنا الأولية، عندها سنثبت دون أن ندري أنّنا لا نعتقد بصحّة هذه المعتقدات أو أنّها معتقدات أولية.