أصل العالم عند اليونانيين؛ أنكسمانس، والهواء اللامتناهي
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة اليونانية
كانت التغيرات المستمرة للطبيعة لافتةً لعقول الفلاسفة الإغريق؛ لذا تساءلوا عن التغيرات المرئية داخل الطبيعة لفهم أحداثها وتفسيرها، محاولين صياغة بعض القوانين الطبيعية المُبرهنة دون الرجوع إلى الأساطير التي يعرفونها؛ أي بعيدًا عن جعل الآلهة والقوى الخارقة هي المسؤولة عن نمو النباتات أو حدوث الكوارث الطبيعية، على الرغم من اعتقادهم بوجود مادة أولية تعود إليها الأشياء الطبيعية جميعها؛ إلا أننا معنيون بطريقة تفكيرهم أكثر من مضمون هذا التفكير؛ فالأسئلة التي طرحوها والأجوبة التي أرادوا الوصول إليها ما زالت تهم الإنسان حتى الوقت الحاضر؛ وبذلك نقدِّم سلسلة أصل العالم عند اليونانيين.
أنكسمانس وُلِد قرابة 558 ق.م وتوفي تقريبًا 524 ق.م، ونشأ في مدينة ميلتس (مالطا) اليونانية وهو أحد رواد المدرسة الأيونية، وعلى الرغم من كونه تَتَلْمَذَ على يد أنكسمندريس إلا أنه أقلُّ منه توفيقًا في العلوم، وأضيق منه خيالًا.
عاد أنكسمانس إلى رأي طاليس في الأرض، فقد اعتقدَ أنها قرصٌ مسطّحٌ قائم على قاعدة، وعلل اختفاءَ الشمس مساءً حتى الصباح بأن جبالاً شاهقة تحجبها عن الأنظار شمالًا أو بكونها أبعد عن الأرض ليلًا مما هي في النهار.
اتفق أنكسمانس مع طاليس وأنكسمندريس أن المبدأ الأول للكون ماديٌّ ولكنه نفى أن يكون مكوَّنًا من مادة غير محددة كما ذهب أنكسمندريس؛ بل إن الكون مكوّن من نوع محدد من المادة؛ فوافق بذلك طاليس، لكنه عاد ليخالفه بأنّ هذه المادة هي الهواء وليست الماء.
وهكذا يرى أنكسمانس أن المادة الأولى للكون هي محسوس متجانس ألا وهو الهواء اللا متناهي الذي يحيط بالعالم ويحمل الأرض، والموجودات تنشأ منه بعمليتين متعاكستين هما: التكاثف (البرودة المتنامية) والتخلخل (الحرارة المتنامية)؛ فإن تخلخل الهواء يُنتج النار وما يتصل بها من الظواهر الجوية النارية والكواكب، وأما تكاثفه فيُنتج الرياح فالسحاب فالمطر، وتكاثف الماء ينتج التراب -الطمي في الأنهر- فالصخر.
والعالم بأكمله يدور في مجرى الزمن من جديد ويستحيل إلى هواء أولي، وهكذا في عملية تعاقبية لامتناهية؛ وبذلك فإنَّ أنكسمانس كما أنكسمندريس يقول بنظرية العوالم اللامتناهية، لكنه يعود مرة أخرى ويستعيض عن اللامتناهي-الذي هو مزاج من الأشياء جميعًا- بشيء واحد هو الهواء. وعن الحركة وما تحدثه من اجتماع وافتراق عارضين لأجزاء المادة بخاصتين متلازمتين للهواء بذاته هما التكاثف والتخلخل؛ ينشأ الهواء ثمَّ النار، فالماء، فالتراب؛ فتتكون منه الأشياء بأنواعها، وعلى ذلك فأنكسمانس يفسر العالم بعلة واحدة تعمل على نحو آلي.
توجهت المدرسة الملطية إلى العالم المحسوس وحاولت معرفته بالملاحظة والاستدلال، وكانت معها بداية العلم الطبيعي. عدَّت المدرسة الملطية المادة قديمة بذاتها -حية كانت أو متحركة- ورأت أن هذه المادة تحولت إلى صور الوجود المختلفة بموجب ضرورة طبيعية (قانون ثابت)؛ هذه الفرضية وضعت أُسس الأحادية المادية المعروفة في الفلسفة الحديثة التي ترد الأشياء إلى جوهر مادي واحد وتفسِّرها بتطور هذا الجوهر في الشكل والكم لا غير.
المصادر:
1- ستيس، والتر. (2008). تاريخ الفلسفة اليونانية. ترجمة: مجاهد، مجاهد عبد المنعم. (د.ط.). القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع. ص 36
2- كرم، يوسف. (2014). تاريخ الفلسفة اليونانية. (د.ط.). القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص 29-30