دورة أنظمة الحكم لدى اليونان
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة السياسية
وعليه، يمكن القول أنّه من بينِ أعظمَ وأهمّ المواضيع الّتي تناولها هذا الفكر وقدّم لها شروحاتٍ مطولة، مما دفع باقي الحضارات للاستعانةِ بها فيما بعد هي: "أنواع الحكومات". فعندما نقولُ مثلاً أنّ "دولة المدينة" نشأتْ أولاً في اليونان، وكانت "دولة أثينا" أعظمها لاعتمادها نظاماً ديمقراطياً مباشراً، فهذا يدفعنا للقول أن فلاسفة اليونان، قد صبّوا جُلّ اهتمامهم بدارسةِ الحكومات والنّظم السياسية، واعتبارها معياراً أساسياً لقياس مدى تقدّم المجتمعات ومدى تأخرها. وقد تناول موضوع أنواع الحكومات وتقييم من هو فاسد وصالح منها، وكيفية الانتقال من نوع لآخر و سبب ذلك عدد من أعلام الفكر السياسي الإغريقي، كأفلاطون وأرسطو وغيرهم. فأولا تكون الحكومة مَلَكيّة دستوريّة، ثم تتحوّل إلى مَلَكيّة استبداديّة. وتكون ارستقراطيّة، وتتحوّل إلى أوليغارشيّة. إلى أن نصل للنظام الديمقراطي. والمعيار بهذه الانظمة، وسبب انتقالها، وتحولها هو، مدى تمسك الحكام بالقانون من عدمه.
عموماً، أرستْ اليونانيّة صرحها السياسيّ وفقاً لهذا التخطيط السداسيّ. الذي ساهم بقدر كبير في فهم وتحليل الحكم وعلاقته بالمحكومين. وفيما بعد جاء "بوليب"، وقدّم نظريته حول الحكومات، و الذي تعرف اليوم بدورة أنظمة الحكم عند بوليب أو بوليبوس.
بوليب:
تصوّر بوليب وجود قانونٍ سياسيّ تاريخيّ لنموّ الدّول وتطوّرها وتغيّرها، وأطلق عليه قانون دورات الحكم. وقد استنبطه ارتكازاً إلى رأيه القائل، بأن الحكومات الصّالحة ذاتِ اللون الواحد، لابدّ لها من أنْ تتّجه مع الزّمن إلى الفساد. وقد استفادَ في قانونه من التّقسيم السّداسيّ الّذي وضعه كل من أفلاطون وأرسطو ومن جاء بعدهم أيضا. فقال بوليب بأن هنالك دورة متكاملة من أشكال الدّول، تبدأ بشكلٍ معيّن لتعودَ إليه مجدداً بعد انقضاء فترةٍ من الزّمن، وبعد مرورِها بكلّ الأشكال. وهذه الدورة تبدأ وفق التصور التالي:
• فتبدأ دورات الحكم بظهور النّظام المَلَكي المُطلق، الّذي يمثّل المرحلة الأولى من وجودِ الأنظمة السّياسيّة ككل، حيث يخضع الجّميع لسُلطةِ الرّجل الأقوى في المجتمع. و من ثم يتطوّر النّظام المَلَكي المُطلق، فيتحوّل إلى نظامٍ ملكيّ معتدل تسودُ فيه الأخلاق، وتكون بموجبه سلطة الملك على أساس موافقة الشّعب وتأييده.
• ولكن سرعان ما يتحوّل حكم هؤلاء وفق أهوائهم ومصالحهم الشّخصيّة دون أيّ مراعاةٍ لمصالح الشّعب وإرادته، فيتحوّل بذلك النّظام المَلَكيّ المعتدل إلى نظام مَلَكي استبداديّ.
• ومن ثم يتململُ الشعب من الحكم الاستبداديّ فتقوم "نخبةٌ مختارة" منه، بالثّورة على المستبدّ وتطيحُ به، فيعمد الشعب إلى مكافأةِ هذه الفئة بتوليتها إدارة شؤون البلاد، وبهذا ينشأ نظام ارستقراطي يعمل لمصلحة الجميع.
• وعندما تتحوّل هذه الفئة الحاكمة الّتي تمثل الطبقة الأرستقراطية مع الزّمن حتى تتوصلَ إلى أنْ تحكمَ بحسبِ مصالحها ووفق أهوائها فيتحول النِظام عندئذ إلى أوليغاركي.
• وبعد استبداد هذه السُلطة الأوليغاركية واهتمامها بجمع المال وإفقار الطّبقات الفقيرة، يثورُ الشّعب عليها ويقيم سلطة شعبية على أساس المساواة والحرية وحكم القانون فينشأ بذلك حكم ديمقراطي.
• بعد فترة من الزّمن، يدبّ الخلافُ بين الفئات الشّعبية، وينتشر الفساد مع انتشار المطامع وصراع الأحزاب، فتحدث فضوى عارمة ويقوم عندئذ الحكم الغوغائي. وبعد انتشارِ الفضوى، يزداد الفقراء فقراً ويفتقد الناس للأمن والأمان مما يجعلهم يتطلّعون إلى الخلاص، وسرعان ما يظهر شخص تثق به العامّة، ويأخذ باستخدام القوّة لفرض الأمن من جديد، وهنا يعود لينشأ حكمٌ ملكيٌ مطلق.
ورأى "بوليب" أنّ الحلّ لإيقافِ دورةَ الحكمِ هذه، يكمنُ في إيجادِ نظامٍ "مختلط"، يقوم على عناصر أساسيّة في كلّ شكل من أشكال الحكم السابقة. فوجود الملك هو الذي يمثل مبدأ الحكم الملكي، ووجود مجلس الشيوخ هو الذي يمثل مبدأ الحكم الأرستقراطي، والمجالس الشعبية تمثل الحكم الديمقراطي. وقانون دورات الحكم الذي وضعه "بوليب"، يعد أوّل قانونٍ سياسيّ في تاريخ علم السّياسة على الإطلاق. إن هذا التقسيم أو المخطط الذي وضعه بوليب، والذين كان نتيجة تراكمات وسنوات من خلاصة أفكار عدد كبير من المفكرين اليونانيين العظام، والذين أرسوا هذه المفاهيم وأدخلوها في العلوم، وهذا انطلاقا من مسلمة يعتقد بها اليونانيون، أن العلوم هي كالمعبد والسياسة هي سقف هذا المعبد، فبدونها لا يمكن للعلوم الأخرى التطور.
ومخطط دورة أنظمة الحكم لدى بوليب تجدونه في صورة المقال.
تم الاستناد في إعداد هذا المقال على :
- محاورات افلاطون، محاورة "رجل الدولة" أو محاورة "السياسي".
- الفكر السياسي القديم والوسيط، كلية العلوم السياسية، جامعة دمشق.
- عمر عبد الحي، الفكر السياسي في العصور القديمة (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2001).
1- عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السياسة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر)
2- محمد صهيب الشريف، النظام السياسي في الإسلام (دمشق: دار الفكر، 2004).