عصبونات التقليد الانعكاسي ومرض التوحُّد
الطب >>>> مقالات طبية
في الحقيقة إنّ بناء النماذج المتطوّرة داخل أدمغتنا يجعلنا كائناتٍ فريدةً من نوعها، فكيف ذلك؟ ولماذا نُحسِن قراءة عقول الآخرين ونشعر بالتعاطف معهم، بل ونستطيع تقليدهم بقدرٍ عالٍ من الدّقة كالمرآة تمامًا؟ (4)
نذكر مثالًا بسيطًا: عندما نُجري عملًا معيّنًا -مثل الوصول إلى كأسٍ ما- يتفعّل لدى المُشاهد نوعٌ من المحاكاة الداخليّة لهذه العمليّة، في الحقيقة إنّ منشأ هذه العملية واحد؛ إذ تتفعَّل عصبوناتٌ تُدعى بـ (عصبونات التقليد الانعكاسي أو الـ mirror neurons)، في كلتا الحالتين هي نوعٌ من الدمج بين الملاحظة والفعل، إذ تُمثِّل صنفًا مميزًا من الخلايا العصبية التي تعمل عند تنفيذ الفرد لفعلٍ ما أو عندما يُلاحظ شخصًا آخر يؤدي الفعل نفسه. (1)
كيف يمكن لعصبونات التقليد الانعكاسي أن تساعدنا على فهم ما يفكّر الآخر به أو بماذا يشعر؟
تُعدُّ عصبونات التقليد الانعكاسي خلايا الدماغ الأساسيّة المسؤولة عن التفاعل الاجتماعيّ؛ إذ تعمل على توفير محاكاةٍ لأفعالِ الأشخاص الآخرين، وبالمقابل هذا يقودنا إلى تقليد النوايا والمشاعر المرتبطة بهذه الأفعال(1)، فهي ترتبط بواحدةٍ من أكثر الجوانب المثيرة للاهتمام والخاصّة بعمليّة التفكير المعقد لدينا؛ وهي فهم النوايا، فتعمل على استقراء الفعل المستقبلي الذي لم يحدث بعد وتوضيحه. (4)
إضافةً إلى تزويدنا بفَهم نوايا الآخرين؛ تسمح عصبونات التقليد الانعكاسي بفهم الحالات العاطفيّة للآخرين من خلال تفاعلاتها مع الجهاز الحوفي للإنسان -المسؤول عن المشاعر-؛ فهي تساعد على شرح كيف ولماذا نُحسن قراءة عقول الناس الآخرين ونشعر بالتعاطف معهم. (3)
هل تستطيع عصبونات التقليد الانعكاسي أن تفهم معنى الفعل؟
إن هذه الخلايا العصبيّة مسخّرةٌ للردِّ على الأفعال التي تتلقَّاها عن طريق البصر أو السمع أو أيّ مسارٍ حسيٍّ آخر، فهي مسؤولةٌ عن فهم الأفعال، ولكن قبل أن نقول ذلك نحتاج أولًا إلى تحديد ما إذا كانت هذه الخلايا العصبيّة تربط بين الأفعال ومعانيها.(2)
يقترح بعض العلماء أنّ عصبونات التقليد الانعكاسي تؤدّي دورًا مركزيًّا في الكلام، وكذلك فإنّ الجهاز الحركي -الذي يُترجم تصرّفاتنا وأفعالنا- يتداخل مع فهم الكلام، فمنطقة الدماغ التي تحتوي على هذه الخلايا العصبيّة تتداخل مع منطقة اللغة الرئيسية التي تُدعى بمنطقة (بروكا).
إنّ كلًّا من تبادل أفكارنا مع الآخرين أو التخطيط معهم يقودان في نهاية المطاف إلى تشكيل بيئتنا، وهي التي تُعَدّ هيكلًا قائمًا على التفكير والتصرّفات المتكرّرة.
"أنا أعتقد؛ لذا أنا موجود"؛ هو مثالٌ على التّفكير المتكرّر، لأنّ المفكِّر قد أدرج نفسه في فكرته، فالتّكرار يُمكّننا من تصوّر عقولنا وعقول الآخرين، ويعطينا القوّة العقليّة أيضًا للسّفر عبر الزمن -مجازيًّا-، وهذا ما قد يساعدنا على إدراج التّجارب الماضية في الوعي الحالي، فالفهم يؤدي إلى الفعل، لذلك تُمثّل عصبونات التقليد الانعكاسي قوّة التفكير المتكرّر. (4)
ما علاقة الخلل بعمل عصبونات التقليد الانعكاسي مع التوحُّد؟
يتظاهر التوحُّد في شكلين أساسيّين من الاضطرابات العصبيّة النّفسيّة، وهما:
1- نقصٌ في التّواصل الاجتماعيّ، وعدم القدرة على التعاطف مع الآخرين.
2- الطقوسُ المتكرّرة مثل حركات هزّ الرأس.
إضافةً إلى عددٍ من المشكلات الأخرى مثل: الصّعوبات اللّغوية، وصعوبة تحديد الهويّة الذاتيّة، وعدم القدرة على محاكاة أفعال الآخرين، وأخيراً عدم القدرة على فهم النّوايا. (4)
ألقي اللّوم في المشكلات التي يواجهها مرضى التّوحد على النّقص في عمل عصبونات التّقليد الانعكاسيّ؛ إذ يعاني مرضى التوحد صعوبةً في فهم الحالة الفكريّة للآخرين، فلا دور لهذه الخلايا العصبيّة في مساعدتهم على تجربة ما يواجهه الآخرون على الفور ودون جهد؛ ممّا يجعل التّفاعلات الاجتماعيّة صعبةً عليهم على نحوٍ خاص، إضافةً إلى نقص دور هذه الخلايا العصبيّ المساهم في الكلام، وهو الذي كان يخلق رابطًا مباشرًا بين المتحدِّث والمتلقي، ويُسهم كلُّ ذلك في نقص القدرة عند الأطفال المصابين بالتّوحّد على التّواصل مع الآخرين ومواجهة مواقف الحياة بطريقةٍ عادية.
وهكذا.. فإنّ العجز في عصبونات التقليد الانعكاسي مسؤولٌ عن ثلاث مجموعاتٍ من الأعراض الرئيسية من التوحّد؛ وهي: (الاجتماعيّة، والحركيّة، واللّغويّة)؛ إذ تُشيرُ بيانات التّصوير بالرنين المغناطيسيّ إلى أنه كلّما زاد الاضطراب بهذه العصبونات انخفضَ النشاط الاجتماعيّ لديهم. (1) (3) (4)
وفي النهاية.. مهما سعينا إلى التفرّد والتميّز في أيّ مجالٍ من مجالات الحياة يبقى التقليد هو الطريقة الأهم للتّعلم، فبِهِ نستطيع اكتساب العديد من المهارات دون أن نستغرق وقتًا طويلًا؛ ولكن لا بأس من أن نستمتع بالهدوء من حين إلى آخر.(3)
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا
5- هنا