هل يحتاج العلم إلى الفلسفة؟
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم المنطق والأبستمولوجيا
تتعامل الفلسفة مع نوعين أساسيين من المشكلات؛ يتناول النوع الأول مشكلات تتعلق بالواقع وهو ما يُعرف بالميتافيزيقيا، أما النوع الثاني فيتناول مشكلات عن المعرفة وهي ما يُعرف بالأبستيمولوجيا (1)، وبالتأكيد يضاف إلى ذلك القضايا الأخلاقية. ونتيجةً للنوع الثاني ولدت لدينا مشكلة معاصرة عن جدوى الفلسفة في العلم ودورها الحالي في ظلّ تقديمه أصدق الإجابات وعدِّه المنهج الأصلح.
وبالعودة إلى الماضي وحسب أرسطو؛ كانت الميتافيزيقيا هي الفلسفة الأولى، في حين كان المجال التجريبي أو ما نسميه اليوم بالعلم هو الفلسفة الثانية، ربط أرسطو في أعماله بين فكرة الحكمة والتعامل مع الأسباب والمبادئ الأولية للأشياء (الميتافيزيقا) وفي مرحلة لاحقة ربط ذلك بمعرفة هذه الأشياء الكلية، وهي أمور صعبة على البشر لأنها بعيدة عن الحواس (3).
من جهة أخرى، يرى بعض الفلاسفة والعلماء، أن الفلسفة غير مجدية بالنسبة إلى العلم، فالعلم مكتفٍ بذاته، فإذا كنا قادرين على التحكم في العالم المادي والتنبؤ بما سيكون عليه عبر تطور العلم من حيث الممارسة والنظريات، فما حاجتنا لدراسة المبادئ الأولى؟ ويصوّر الفيلسوف الأمريكي ويلارد كواين (Willard Van Orman Quine) هذا الوضع بتشبيه العلم بالقارب، فإذا احتاج هذا القارب إلى إصلاح وكنا داخله في عرض البحر، فإننا نغير الأجزاء التي تحتاج التغيير قطعة تلو الأخرى دون الخروج منه. الأمر كذلك بالنسبة إلى العلم، يمكننا أن نغير جزءًا منه وندعه يتطور بالاعتماد على باقي الأجزاء دون الحاجة لشيء سواه، وقد ذهب الفيزيائي ستيفن هوكينغ (Stephen Hawking) إلى حد أبعد من كواين بكثير، وذلك بإعلانه موت الفلسفة لأنها لم تعد تواكب التطورات المعاصرة للعلم، وتحديدًا في الفيزياء، ونتيجة لذلك أصبح العلماء هم حاملو شعلة الاكتشاف في رحلة البحث عن المعرفة (3).
ومن المنظور ذاته، يرى الفيزيائي ريتشارد فاينمان (Richard Feynman) بعدم جدوى الفلسفة بالنسبة إلى العلم؛ إذ يرى أن فلسفة العلم مفيدة للعلماء بمثل ما يكون علم الطيور مفيدًا للطيور. في المقابل، يرى ألبرت أينشتاين (Albert Einstein) أن فلسفة العلم والميثودولوجيا والتاريخ هي مواضيع مهمة للتعليم العام للعالِم ولأبحاثه أيضًا، فحتى لو لم تكن الفلسفة مهمة للعلم اليومي، فإنها مهمة بالتأكيد عندما تجبرنا التجربة على البحث عن أسس أحدث، وأن ممارسة العلم اليومية خلّاقة ومعتمدة على الخيال ولكن إلى حد معين؛ لأن أغلب عملية الممارسة تقوم على استعمال المناهج والنظريات المفهومة جيدًا بُغية تفسير واستكشاف تفاصيل لم يُعنى بها أحد من قبل، ولكن عندما تكون الأمور الأساسية على المحك -وهذا ما حدث مع داروين وأينشتاين- فليس هناك مجموعة محددة من النظريات أو الإجراءات الأساسية التي يتخذها العالِم مرجعًا لأبحاثه، وهنا يأتي دور الفلسفة التي تعلّم العلماء أن البحث العلمي لا يزال ممكنًا في غياب المناهج الواضحة المتفق عليها، وهذا هو دأب الفلاسفة الذين يفكرون بنحو عقلاني في غياب المناهج الواضحة والمتفق عليها، فالكثير من النواتج العلمية اليوم، كانت ألغازًا منذ قرون مضت وما كان لأي علم مبتكر أن يتم لو رُفضت مواجهة الألغاز الفلسفية بسبب كونها غير علمية (1).
يذهب المدافعون عن الفلسفة إلى أنها أدّت دورًا مهمًّا في تطور العلم؛ إذ تسهم في ذلك بأربعة أشكال على الأقل هي:
1. توضيح المفهومات العلمية.
2. التقييم النقدي للمناهج والافتراضات.
3. تشكيل نظريات ومفهومات جديدة.
4. العمل على انفتاح العلوم على بعضها وانفتاح المجتمع على العلم (2).
وعلى سبيل المثال، تعد مشكلة الهوية -إحدى المشكلات الفلسفية- مشكلة مهمة بالنسبة إلى علماء الحياة؛ لأن الهوية تتطور عبر الزمن، فمثلًا عندما تنقسم الأميبا (amoeba) إلى اثنين، فأي هذين الاثنين يُعد هو الأميبا الأصلية؟ ربما لا يجد العالِم نفسه مجبرًا على إهدار وقته في الإجابة عن هذا السؤال في الوقت الراهن لعدم وجود حل واضح في الأفق المنظور، ولكن ليس من الحكمة أن يُبقي ذهنه منغلقًا عن الموضوع بسبب كون السؤال ذا طابع فلسفي؛ لأن ما هو فلسفي اليوم، قد يكون كشفًا علميًّا غدًا، والجدير بالملاحظة أنه حتى القول بعدم جدارة المشكلات بالحل إلا إذا كان هناك حل ممكن وبادٍ في الأفق، هو بالأساس افتراض فلسفي؛ ويجب أن يُناقش عوضًا عن قبوله افتراضًا واضحًا (1).
وبذلك فإن الفلسفة والعلوم يقعون على سلسلة متصلة؛ إذ يشتركون بأداوت المنطق والتحليل المفاهيمي، والحجج الدقيقة، إلا أن الفلاسفة بإمكانهم تشغيل هذه الأدوات بدرجات من الحرية والسعة والتجريد النظري مقارنة مع الباحثين في أنشطتهم اليومية، ويمكن للفلاسفة الذين لديهم المعرفة العلمية ذات الصلة أن يسهموا في تقدّم العلم في جميع المستويات؛ من النظرية إلى التجربة، ولكن عمليًّا؛ نجد العديد من الفلاسفة يترفعون عن العلم أو لا يجدون صلة بين العلم وعملهم، ومن جهة أخرى لا يدرك جميع الباحثين الفوائد التي يمكن أن تجلبها الأفكار الفلسفية وفي الوقت الحالي لا يجد سوى عدد محدود من الباحثين الوقت والفرصة ليدركوا العمل الذي ينتجه الفلاسفة ناهيك عن قراءته (2).
المصادر: