مراجعة كتاب عزاءات الفلسفة
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
يأخذ دو بوتون الفلسفة إلى وظيفتها الأسمى على نحو مبسَّط يخلو من الملل؛ بل ويتوِّجها بالمتعة، وهكذا يعيد المؤلِّف أجواء أثينا وما بعدها إلى حياتنا؛ إذ يمكن أن نستخدم الفلسفة لنعيش ونجادل ونفكِّر ونتجاوز مشكلاتنا.
● العزاء بشأن مخالفة الآراء السائدة
يسافر دو بوتون في الفصل الأول إلى تاريخ أثينا الفلسفي، في الوقت الذي عاش فيه سقراط وتفلسفَ حتى أثار الجدل من حوله، وفي النهاية حُكِم عليه بالإعدام من الأثينيين؛ لذا يلقِّبه البعض بــ(شهيد الفلسفة الأول)، ويقدِّم هذا الجزء من الكتاب تفاصيل حياة سقراط ومُحاكمته بسردٍ ممتعٍ يشد القارئ إلى حالةٍ من المتابعة والتساؤل الذي قلَّما ينضب، فشخصية سقراط جسَّدت حالة الإيمان بالمعتقدات المُخالفة للآراء السائدة ودفعت حياتها ثمن ذلك الإيمان، وناقش سقراط حينها جلَّ المسلَّمات وفكّكها بتفلسفٍ ذكيٍّ بينما هو يمشي في أرجاء أثينا حافي القدمين ومُنطلِق اللسان؛ فناقش معنى الشجاعة، وعلاقة المال بالفضيلة، وسبب جهل الآخرين، وكيف يفكر المرء بنفسه.
وفي وسط هذه النقاشات تظهر ملامح المنهج السقراطي للتفكير.
يقول سقراط في محاكمته:
"طالما أني أتنفس وأملك القوة، لن أتوقف عن ممارسة الفلسفة وإسداء النصح لكم وتوضيح الحقيقة لكل من أصادفه، وبذلك أيها السادة، سواء برّأتموني أو لا، أنتم مدركون أنني لن أغير سلوكي، حتى لو متّ مئة مرة."
● العزاء بشأن الافتقار إلى المال
ينتقل بوتون في هذا الفصل إلى رحلةٍ أُخرى مع الفيلسوف أبيقور، وهو من أهم فلاسفة اليونان، فقد ألَّف قرابة 300 كتاب في المجالات كافةً؛ عن الحب وعن الموسيقا وعن التعامل العادل، وكتاب عن الحياة (في أربعة أجزاء)، وآخر عن الطبيعة (في سبعة وثلاثين جزءًا).
وما ميَّز فلسفة أبيقور كان تأكيده على أهمية اللذة الحسية وعدِّها منطلق الحياة السعيدة وغايتها، وهكذا ارتبط اسمه بمفهوم اللذة ودخل في كثير من اللغات بصيغة النعت على من يهتم لمنفعته الشخصية.
"الإنسان الذي يدَّعي عدم استعداده للفلسفة بعد، أو أن الوقت قد فات على هذا، يشبه الإنسان الذي يقول إنَّه صغيرٌ جدًا أو كبيرٌ جدًا على السعادة." أبيقور
● العزاء بشأن الإحباط
يقدِّم دو بوتون سيرةً موجزة عن حياة الفيلسوف سينيكا التي تتالت فيها الإحباطات ودفعته في النهاية إلى الانتحار؛ لنحصدَ منها القاموس السينيكي في الإحباط وتعارض الأمنيات مع واقعٍ قاسٍ.
ويقاوم سينيكا الواقع (السيئ والأسوأ) على أنَّه تحصيلُ حاصل؛ أي حالة طبيعية، ولكنَّ البشر يأملون بحياةٍ تخدم توقعاتهم دائمًا، إذ إنَّ المرء لا يُمكن أن ينزعج من هطول المطر في فصل الشتاء (حالة طبيعية ومُتوقعة)، بينما قد يشكل هذا غضبًا لديه إن أمطرت في الصيف (حالة غير طبيعية وغير مُتوقعة)؛ ومن هنا تنطلق فلسفة سينيكا عن العزاء بشأن الإحباط، ويقودنا دو بوتون إلى تفاصيل تلك الفلسفة كاملةً.
"إن ما يدفعنا إلى الغضب أفكارٌ تفاؤليةٌ على نحو خطير بشأن ماهيّة العالم والناس والآخرين."
● العزاء بشأن العجز
يشرَع دو بوتون لمناقشة العجز وأنواعه من منظور الفلسفة -فلاسفة اليونان تحديدًا-وتشمل هذه المناقشة ثلاثة أنواعٍ من العجز: عن العجز الجنسي والعجز الثقافي والعجز الفكري. فيستحضر إيمان الفلاسفة وآلياتهم الدفاعية في مواجهة العجز، ويميِّز هذا القسم من الكتاب في سرده التاريخي للآراء، ومن هنا يتعايش القارئ ليس مع الفكرة فحسب؛ بل مع سياقها التاريخي وواقعها الذي انطلقت منه.
ويتطرَّف دو بوتون إلى هرمية الذكاء وفصل العلم والحكمة عن طريق مجموعة من الأسئلة التي وردت في حياة الفلاسفة، وهذا بصفته نوعًا من مقاومة العجز الثقافي والفكري.
"نعلم كيفيّة القول (هذا ما قاله شيشرون)؛ (هذه أخلاقيات أفلاطون)؛ (تلك هي كلمات أرسطو حرفيا)؛ ولكن ما الذي ينبغي علينا قوله حرفيا؟ ما الأحكام التي سنطلقها؟ ما الذي نفعله؟ يمكن للبغاء أن يتحدث كما نتحدث."
● العزاء بشأن انكسارات القلب:
نبدأ في هذا القسم في التوغُّل في حياة أحد أبرز الفلاسفة التشاؤميين في تاريخ الفلسفة، وهو الفيلسوف آرثر شوبنهاور؛ إذ إنَّه عاش حياة ملأ التشاؤم زواياها منذ طفولته حتى بلوغه، وصار هذا التشاؤم فلسفةً وموقفًا تفرضه إرادة الحياة* حسب رأي شوبنهاور الذي يقول: "بإمكاننا اعتبار حياتنا حلقة مزعجة غير ذات نفع في السكون المبهج للخواء."
ومن حياة شوبنهاور وركام التشاؤم هذا، نشرَع إلى سؤالٍ أساسي في الحب في قسم (قصة حب معاصرة مع ملاحظات شوبنهاور).
فيطرح دو بوتون موضوعًا ناقشه شوبنهاور في فلسفته، وهو حسب وصفه أحد الألغاز في قضية الحب: (لِمَ هو؟) و (لِمَ هي؟).
ويربط شوبنهاور لغز الاختيار هذا في العلاقات إلى قوَّة إرادة العيش أيضًا؛ أي قوة إيجاد شريكٍ متوافقٍ مع إرادة التناسل التي تجرُّ البشر إلى الحب والزواج والاستمرار.
فحسب رأي شوبنهاور: نحن لسنا أحرارًا حين وقوعنا في الحب مع الجميع لأنَّنا عاجزون عن إنجاب أطفال أصحاء مع الجميع، بل تدفعنا إرادة الحياة الخاصة بنا باتجاه الناس الذين سيرفعون فرصتنا في إنتاج ذرية ذكية وجميلة، وتبعدنا عمَّن يقلل تلك الفرصة.
"ثمة ما هو فريد في الجدية اللاواعية العميقة التي يقيّم عبرها اثنان من الشباب، من جنسين مختلفين، بعضهما بعضا عندما يلتقيان للمرة الأولى، وفي البحث والنظرات المستقصية التي يتبادلانها، والتدقيق الحريص في جميع ملامح وأجزاء كل منهما. هذا التدقيق والتفحّص يعني تأمّل عبقرية النوع المتعلق بالفرد الذي يمكن أن ينتج عن علاقتهما."
نترك لكم متعة اكتشاف ما بقي من العزاءات الفلسفية، وكيف يمكن أن نداوي نفسنا وأفكارنا بترياقٍ بطعمٍ فلسفي، قراءةً ممتعة.
عن المؤلِّف: آلان دو بوتون (Alain de Botton) كاتب ومقدِّم برامج سويسري مقيم في بريطانيا، تتمحور كتاباته حول توظيف الفلسفة في الحياة اليومية، وقد لقت كتبه رواجًا واسعًا في وسط القراءة.
عن المترجم: يزن الحاج كاتب ومترجم سوري، أصدر مجموعة قصصية وترجم عددًا من الكتب عن الإنجليزية صدر منها عن دار التنوير: الفلسفة في الحاضر (آلان بايدو وسلافوي جيجك 2013)، الحرية: خمس مقالات عن الحرية (إيزايا برلين 2015)، سمكري خياط جندي جاسوس (جون لو كاريه 2015)
* (التشاؤم عند شوبنهاور؛ موقف تفرضه الإرادة) هنا
معلومات الكتاب: