ما الذي يجري داخل عقل الحيوانات؟
البيولوجيا والتطوّر >>>> علم الأعصاب
هل تساءلت يومًا في طفولتك إذا ما كان جيري يشعر بالخوف كما نشعر نحن حين يطارده توم؟ وهل لديهم ما نملك من الأحاسيس أو ردود الأفعال؟ حسنًا، يبدو أن أسئلةً كهذه شغلت أذهانَ عديدٍ من باحثي العلوم العصبية في الآونة الأخيرة، لتنطلق دراساتٌ وأبحاث عديدة استهدفت التوسعَ في فهم كيمياء دماغ الحيوانات والحشرات بدءًا بالكائنات الأبسط فيزيولوجيًا وانتهاءً بالكائنات الأكثر تعقيدًا.
مازال لدينا في علوم الدماغ والفيزيولوجيا العصبية كثيرٌ من الأسرار التي نبحث في تفاصيلها وآلياتها ونسعى لفهمها أكثر، وكثيرٌ من المشاعر والحالات الداخلية كالعدوانية أو الرغبة أو الخوف أو الجوع أو القلق، ولأن دراسة هذه التفاصيل لدينا نحن البشر مباشرة صعبة، فقد اتبع الباحثون دومًا التسلسلَ الهرميَّ في هذه الدراسات، بدءًا بالكائنات ذات الفيزيولوجيا والبنية الأبسط.
صغار سمك الزرد (zebrafish larvae) إحدى هذه الكائنات البسيطة التي تُستخدَم اليوم بوصفها نموذجًا في دراسات العلوم والفيزيولوجيا العصبية نظرًا لكونها إحدى الفقاريات ذات التشابه الكبير مع البشر فيزيولوجيًا وجينيًا؛ ولسهولة التلاعب الجيني لديها إضافةً لامتلاكها عددًا قليلًا نسبيًا من الخلايا العصبية (حوالي 80 ألف خلية في دماغ السمكة، بينما يقارب عددها المئة مليار خلية عصبية في دماغ الإنسان (2)) وهيكلًا شفافًا يسمح بمراقبة ما يجري داخله باستخدام تقنيات التصوير بالكالسيوم * (1، 4).
في دراسة أجراها باحثان في العلوم العصبية في مختبرات معهد ماكس بلاك بألمانيا، لاحظا -وبمحض الصدفة- أنَّ عصبونات معينة يمكنها أن تتنبأ متى ستلتقط السمكة طعامَها وتبتلعه، حتى أن بعضًا من هذه العصبونات تتفعّل قبل رؤية السمكة لفريستها بثوانٍ عدّة (4).
❀ ونظرًا لكون الحيوانات عمومًا تحتاج جمعَ كل المعلومات المكتسَبة من حواسها كي تؤديَ أي رد فعل حسي أو حركي (5)، فقد استنتج الباحثان أنَّ هدف النشاط المبكر (بثوانٍ عدّة) لهذه العصبونات إدخالُ الدماغ كاملًا في "حالة تأهب" لتستعد السمكة لالتهام فريستها، ما يشبه إحساسَ الجوع لدينا.
❀ وفي بحث آخر أجري هذا العام بمعهد كالتيك-باسادينا في أميركا حدّد الباحثون الحالة الداخلية لدماغ ذبابة الفاكهة عند انخراطها بقتال فيما بينها، كان هدف الباحثين فيها نفيَ الاعتقاد أنَّ عدم قدرة الحيوان على التعبير عن مشاعره بكلمات يعني عدمَ وجود هذه المشاعر، وقد أطلقوا على السلوك الملاحَظ لديها في هذه الحالة اسمَ "تأثير هيلين طروادة"، تيمنًا بالأسطورة الإغريقية التي تروي قصةَ حرب طروادة ونزاعَ محبي هيلين الذي أشعل فتيلَها، إذ اقترحت الدراسة أنَّ ذكور ذبابة الفاكهة تنخرط في سلوكٍ عدواني فيما بينها أمام إناثها لتثير إعجابَها، وقد يستمر هذا السلوك العدواني عدة دقائق (وهي تمثل فترةً طويلة نسبيًّا من عمر ذبابة الفاكهة المقدَّر وسطيًّا بشهرين أو ثلاثة) (4،6).
❀ للفئران أيضًا -وفقًا للفريق البحثي ذاته- طريقتُها في التعبير عن الخوف، وتمتلك عصبوناتٍ تتفعل عند شعورها بالخوف لفترة محددة؛ إذ لوحظ عند وضع جرذ قريب من فئران التجربة ثوان عدّة، أنّ سلوكًا دفاعيًّا يظهر عليها يتمثل بالتمسك بسرعة بأقرب جدار لها وتتفعل لديها هذه العصبونات المقترح ارتباطها بشعور الخوف، وعند تكرار التجربة خلال الدقائق القليلة التالية لوحظ تكرار السلوك الدفاعي ذاته حتى بغياب الجرذ، مما يدعم فكرة دخول الدماغ كاملًا بحالة داخلية من الخوف يعبر عنها الفأر بهذا السلوك الدفاعي لعدة دقائق. واقترح الباحثون بذلك أن الحالة الداخلية التي يدخل فيها الدماغ تدوم فترةً أطول من المحفز الخارجي الذي آثارها، كشعورنا بالخوف من عصا مثلًا بعد عدة دقائق من رؤيتنا لأفعى، وشعورنا بالخوف مفاجئ فقد استمر المحفز هنا لثوان لكن الخوف منه دام عدةَ دقائق ليتكرر السلوك الدفاعي عند رؤية عصا، وهذا يشير لخاصية أخرى أيضًا من خواص الحالات الداخلية للدماغ، وهي خاصية التعميم أو (Generalizability)؛ التي تعني إمكانية تحريض الحالة الداخلية ذاتها في الدماغ بعوامل مختلفة.
❀ حتى أن دماغ الدودة الربداء الرشيقة (Caenorhabditis elegans) والحاوي فقط على 302 عصبونٍ تبين أنه يبدي خصائصَ حالات داخلية دماغية تحدد سلوك الدودة فيما إذا كانت ستتجول بلا وجهة معينة أو نحو هدف محدد (4).
✪ خلاصة للأمثلة السابقة: بغض النظر عن مدى تعقيد بنية الكائن الحي (سواءٌ أكان دودةً أم فأرًا أم يرقة) يبدو أنَّ للكائنات جميعها حالاتٍ داخليةً تختلف محفزاتها أو طرائقُ التعبير عنها من خوف أو جوع أو عدوانية، لكنَّ عدم وضوح التعبير عنها لا يعني غيابَها.
هامش:
* تقنية بصرية تُستخدم لقياس النشاط العصبي داخلَ الخلايا، بالاعتماد على واسمات يتغير تألقها عند ارتباطها بالكالسيوم ضمن الخلية؛ إذ تعكس تراكيز الكالسيوم حالة النشاط أو الكمون للخلية العصبية (3).
المصادر: