الكائنات الدقيقة؛ حلول علاجية فعالة للأمراض المستعصية- الجزء الثاني
البيولوجيا والتطوّر >>>> الأحياء الدقيقة
أما من الناحية الطبية فلقد ارتبط اسم الفطريات مع البنسلين، الدواء المعروف والذي يُعتبر دواءً شاملاً لكلِّ انواعِ الاصابات الجرثومية، إلا أنّ هذا الدواء يُعتبر شيئاً يسيراً مما تخفيه الفطريات من علاجاتٍ واستخداماتٍ طبيةٍ واسعة.
لقد تم التركيز في الدراسة الطبية للفطريات على المواد والمشتقات التي يتم انتاجُها بشكلٍ طبيعيٍّ منها والتي لها خصائص متعددة وفعالية عالية في محاربة الأمراض.
أحد هذه المشتقات التي يقوم بانتاجها أحد انواع الفطور تعمل على خفضِ مستويات الكوليسترول من خلال تثبيطِ عمل أنزيمات محددة في الجسم، حيث لوحظ بعد العلاج بهذه المشتقات انخفاضٌ في حالات النوبات القلبية والموت المفاجئ الناجم عنها لدى حوالي 60% من الحالات.
من ناحية أخرى يلعب المشروم دوراً طبياً آخر؛ فلقد أُثبِتَ أنَّ المشروم يقوم بانتاج مادة كيميائية تعمل كمضادٍ لآلية تَشكُّل السرطان بعدّة طرق، منها تثبيط نمو الأوعية الدموية حول الخلايا السرطانية أو من خلال تثبيط تعبير المورثات المسرطنة عن نفسها، أوعن طريق خفض مستوى الجذور الحرة في الجسم. ولقد أظهرت التجارب البحثية التي أُجرِيَت على الحيوانات المصابة بسرطان الرئة والتي تم علاجها بهذا المنتج أنها استطاعت البقاء على قيد الحياة لفترة زمنية أطول من الحيوانات التي لم تُعالَج.
مشتق آخر يتم انتاجه من الفطر Nodulisporium sylviforme له دورٌ في علاج السرطان بآلية مختلفة، حيث يوقف عملية انقسام الخلايا السرطانية في المرحلة الاستوائية من الانقسام وذلك من خلال التأثير على خيوط مغزل الانقسام، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى حدوث الموت المُبَرمَج للخلايا السرطانية والتخلص منها.
مركب آخر يدعى Myriocin يتم افرازه من الفطر Isaria Sincliarii شكّل حلّاً لأحد أصعب امراض المناعة الذاتية وهو مرض التصلب المتعدد والذي تقوم فيه الخلايا اللمفاوية بمهاجمة محاور الخلايا العصبية. لقد تم تصنيع هذا المركب وهو حالياً عبارة عن دواء يتم تناوله عن طريق الفم فيعمل على بناء مخازن للخلايا اللمفاوية في الجسم، والتقليل من تفاعلها مع الجهاز العصبي المركزي وبالتالي الحدّ من تقدّم المرض.
ولمحاربة الملاريا نصيبٌ أيضاً فهي من اختصاص الفطرMetarhizium Anisopliae الذي أثبت قدرته على قتل طفيليات الملاريا في البعوض قبل وصولها إلى الانسان. عند الاتصال بين هذا الفطر والبعوض يشكّل الفطر فتحة في الغلاف الكيتيني للبعوضة ويصل إلى مجرى الدم، حيث يتكاثر وينتج مادة مضادة تهاجم طفيليات الملاريا وتؤدي إلى تلاصقها معا، مما يمنع وصولها إلى الغدد اللعابية وبالتالي عدم وصولها إلى الإنسان. وللوقاية من الملاريا فلقد تم مزج الفطريات مع سم العقرب ونثره على الناموسيات. هذا المزيج الذي يحمي بدوره من الاصابة بالملاريا، ويمكن أن يكون حلّاً للوقاية من الأمراض الأخرى كحمى الضنك والحمى الصفراء والتي ينقلها البعوض أيضاً.
نوعٌ آخرٌ من المشروم هوBoletus Edulis يُبشّر بوعود كبيرة لمحاربة مرض نقص المناعة المكتسبة (الايدز)، حيث ينتج هذا الفطر مادة lecti والتي لها تأثير كبير على عكس نشاط المادة الوراثية لفيروس الإيدز. هذه المادة هبارة عن بروتينات مرتبطة بالسكر، يتمّ حقنها ضمن الخلية المضيفة والنتيجة هي الحد من انتشار الفيروس في الجسم.
وبالمقابل يلعب فطر سن المشط، وهو نوع من المشروم ينمو على خشب الأشجار الميتة الصلب، دورا في علاج مرض الزهايمر، حيث يُنتِج مادة يمكن عزلها وتعمل كعامل فعّال لتحفيز نمو الأعصاب بعد تلفها في حالة الإصابة بهذا المرض.
وللفيروسات أيضاً دورٌ مهمٌ في هذا المجال. لازالت الفيروسات توصف بأنها جزئيات غير خلوية لأنه ينقصها الكثير من المواد الوراثية، ولكن يمكن أن تحتوي على غلاف بروتيني وكابسيد أو كليهما. الفيروسات حتى الآن تُعتبَر الأساس في تصنيع اللقاحات؛ والسببُ الرئيسي في فعالية جزئيات الفيروسات هو أن الجسم يستجيب لها على انها فيروسات ممرضة، فمن خلال تقديم المستضدات الفيروسية المختلفة للجسم على شكل لقاحات يستجيب لها الجهاز المناعي، ويقود ذلك إلى استجابة مناعية أقوى في حال حدوث العدوى الحقيقية.
في السنوات الأخيرة تكثر الأبحاث حول إمكانية استخدام الفيروسات في انتاج لقاح فعّال ضد الخلايا السرطانية، وذلك من خلال خداع خلايا الجهاز المناعي وخاصّةً الخلايا المعتدلة التي تتصف بارتفاع معدّل هجموها للخلايا البكتيرية والفطرية التي تهاجم الجسم البشري. أما الخدعة فمضمونها جعل الخلايا المعتدلة تعتقد أن الخلايا السرطانية هي خلايا فطرية مُهاجمة للجسم، مما يُشكِّل حافزاً اضافياً للخلايا المناعية كي تهاجمها بشكل فعّال فور تشكّلها وقبل تحولها الى اورامٍ خبيثة.
إنّ الأبحاث في مجال استخدام الكائنات الدقيقة كالبكتيريا والفطريات وجزيئات الفيروس كوسائل علاجية للأمراض المختلفة مستمرّة، وستُحرِز تقدّماً أسرع ممّا هو عليه الآن في حال تمّ الجمع بين علمي الكائنات الدقيقة والأمراض، وزيادة الأبحاث العلمية في هذا المجال. والعائق الوحيد أمام هذا التقدم هو انتظار الموافقات الطبية لاستخدام هذه الادوية من قِبَل الإنسان، والتي من الطبيعي أن تخضع لعدة تجارب وتستجيب لعدد من معايير السلامة.
تحمل هذه التطبيقات آمالاً كبيرة لعلاج مرضى السرطان والتصلب المتعدد والزهايمر والملاريا، فما زال مريض السرطان حتى الآن يخضع لعلاج الجراحة والاستئصال، أو العلاج الكيميائي الذي يدمّر كل الخلايا سريعة الانقسام في الجسم، ولكن الرؤية الجديدة المتمثلة باستخدام البكتيريا كحافلات لنقل الدواء في الجسم إلى الخلايا السرطانية والقضاء عليها سيفتح أبواباً علاجية جديدة قد تكون أكثر فعالية من غيرها.
المصادر:
هنا