مراجعة كتاب (الأنثروبولوجيا في مواجهة العالم الحديث)
كتاب >>>> الكتب العلمية
وقد تمكَّن في هذه المحاضرات -أي فصول الكتاب- من إبراز أهم ثيمات وإشكاليات إنسان العالم الحديث عن طريق تحليلها والتعقيب عليها من رؤية علمية تكشف تطوُّر أشكال المجتمعات وبنيتها الثقافية والتباين فيما بينها.
ويشمل ذلك الروابط بين العِرق والثقافة والاختلاف بين الحاضرات والأوجه الجديدة للمجتمعات من عين الأنثروبولوجيا وما يترتَّب عليه من مشاركة في وَضْع حلول وافتراضات يُعمَل عليها بالاشتراك مع سائر العلوم الطبيعية والإنسانية.
يقول موريس أولاندير في تقديم الكتاب: "أعمال كلود ريفي ستروس معترف بها على مستوى دولي وهي بمثابة مختبر لفكر مفتوح على المستقبل، ومما لا شك فيه أن الطلبة وجيل الشباب سيجدون في هذا الكتاب أحسن مدخل لما يطرحه من فهم عميق لعالمنا."
يُقدِم الباحث ستروس في بداية محاضرته الأولى (نهاية التفوق الثقافي الغربي) على تفهيم نقاط أساسية في علم الأنثروبولوجيا لتحديد أهميته ومدى قابليته لتفكيك التاريخ والمجتمعات والعالم المعاصر بهدف كَشْف الغطاء عن إشكالياتها الاقتصادية والاجتماعية ومعضلاتها الأخلاقية والقانونية، وتشمل هذه المحاضرة رؤية ستروس عن الحضارة الغربية، فيعتقد أنَّ أوروبا التي وضعت نفسها في خانة التفوُّق على باقي الحضارات ثقافيًّا وعلميًّا، وخاصةً بعد القرن الثامن عشر والتاسع عشر وريادته في مجال العلم والفكر والفلسفة وما بشَّرت فيه من مستقبل إنساني علمي مزدهر، وانتهى مع مسرح القرن العشرين وأحداثه وكوارثه البيئية والإنسانية المتتالية على مستويات مختلفة كذَّب فيها التوقُّعات المتفائلة، فانتشرت الأيدولوجيات الشمولية والأطماع الاقتصادية وما زالت تنتشر في كثيرٍ من بقاع الأرض، إضافةً إلى ما شهده القرن من عمليات إبادة وتصفية مروعة.
ويعرِّف ستروس في فصل (القبول بالتنوع الثقافي) أحد أساسيات علم الإنثروبولوجيا بأنَّها تستند في الحد الأول إلى المقارنة، ولا تصح دراسة أنثروبولوجيا دون وجود مقارنة، ومنه وجود ثقافات مختلفة في أدق تفاصيلها وأصغرها وأكثرها بساطةً، ومن هذه المقارنة والمجادلة في الفوارق والقواسم المشتركة بين الحضارات والثقافات تقود الأنثروبولوجيا الأبحاث لفهم بنية ظاهرة الإنسان وتاريخه في مجتمعاته المتفاوتة في ثقافتها تاريخيًّا وحاضرًا ومستقبلًا.
ومن هذا التعريف الأنثروبولوجي يمكن فهم أهمية الاختلاف أيضًا؛ إذ إنَّ ما ذكر يمكن صياغته: "لا فوارق لا إنثروبولوجيا"، وهنا أيضًا يمكن التأكيد على أنَّ الإنسان حيوان اجتماعي/سياسي لا يختزل في فردانيته؛ بل في مجتمعه القائم على سلوكيات لها تاريخها الإنثروبولوجي.
وحسب العالم ستروس، إنَّ الأنثروبولوجيا جمعت آلاف التجارب الاجتماعية البشرية المتباينة والمختلفة عبر آلاف السنين، وتتوزَّع هذه الدراسات الأنثروبولوجية في أيامنا حول جغرافية كوكب الأرض، ومنه حول تاريخ أكثر الشعوب والقبائل اختلافًا وعاداتهم وثقافتهم، ومع هذا التباين سيكون من الخطأ التأكيد بما هو (طبيعي) وما هو (شاذ) في المجتمعات البشرية، فإنَّ ما هو طبيعي في مجتمع قد يكون شاذًّا في آخر، سواء تاريخيًّا أو حاضرًا، ويناقش ستروس هذين المصطلحين في تقديم عدة تجارب ومقارنات اجتماعية.
ويناقش ستروس في محاضراته مفردة (العِرق) أيضًا واصفا إياها بـ(مفردة في غير محلها) ومحلِّلًا إذا كان العِرق يؤثر بالثقافة وعلى أيِّ نحو يجري ذلك.
فحسب رؤيته ما الاختلاف العِرقي إلا اختلافٌ يكمن في بنية شكل المجتمعات والتنشئة والجغرافية وليس في المخزون الجيني بذاته؛ بل هو عامل من عدة عوامل متنوعة، فإنَّ التطور البشري لا يقتصر على التطور البيولوجي فحسب؛ بل على تطوُّره الأنثروبولوجي أيضًا، والاثنان معًا يشكِّلان تركيبًا أكثر تكاملًا لفهم ظاهرة الإنسان وعلاقة الثقافة بالعِرق.
وتعدُّ محاضرات ستورس وكتبه عمومًا مرجعيةً مهمة لفهم الدراسات الأنثروبولوجية، وهذا الكتاب يشمل ثلاثًا من أهم محاضراته التي تحمل القلق تجاه مشكلات العالم الحديث في القرن الواحد والعشرين. يقول كلود ستريس:
"أول درس تلقنا إيّاه الأنثروبولوجيا هو أن العادات والتقاليد كيفما كانت طبيعتها، ومهما بدت لنا منافية للعقل ومهما كانت الصدمة التي تحدثها لنا عندما نقارنها بتلك التي نتبناها نحن، فهي تندمج في أنساق لا يمكن لها أن تستمر إلّا بالحصول على إنسجام داخلي قد تستغرق عملية تشكله عدّة قرون، بحيث لا يمكن المساس بجزء واحد منه دون تعريض الباقي للاندثار بشكل كلِّي."
معلومات الكتاب: