مَن الأسرع تطورًا؛ البشر أم العوامل المُمرِضة؟!
البيولوجيا والتطوّر >>>> التطور
بدأ سباقُ الجنس البشري مع الميكروبات والعوامل الممرضة المتنوعة؛ فحقبةً تطوِّر هذه العوامل قدرَتها على إحداث الأمراض، وحقبةً يبني جسم الإنسان دفاعات جديدة.
وتستمر المنافسة إلى يومنا هذا؛ إلى تاريخ كتابة هذا المقال.
تكيَّفت المجموعات السكانية المتنوعة من البشر مع البيئات المختلفة، مواجِهة بذلك مجموعةً واسعةً من العوامل الممرضة؛ مما حفّز تأقلم الجهاز المناعي لهؤلاء السكان وفقًا للبيئات. يُعَدُّ التباينُ الوظيفيُّ للجينات المناعية الناتج عن التطور وثيقَ الصلة بالاستجابة ضد الإنتانات وكذلك في ظهور أمراض المناعة الذاتية والالتهابات عند الإنسان الحديث (1,2).
فما الذي يجعلنا معرَّضين للأمراض أو ممنّعين من الإصابة بها؟
أقيمَت ندوةٌ لمناقشة تطور الأمراض المعدية مؤخرًا، أشار فيها عالمُ الأمراض Nissi Varki من جامعة كاليفورنيا إلى أن الجنس البشري يعاني عديدًا من الأمراض المُميتة التي لا تصيب القردة وغالبية الثدييات الأخرى، مثل: الحمى التيفية والكوليرا والنكاف والسعال الديكي والسيلان.
تتبع الباحثون كيفية مساهمة التطور في تسارع بناء دفاعات جديدة بعد ظهور الضعف الجزيئي في أسلافنا البعيدين، ومن خلال تحليل الجينوم البشري الحديث والحمض النووي القديم لأبناء عمومتنا المنقرضين -إنسان نياندرتال (Neanderthals) ودينيسوفان (enisovans)- اكتشف الباحثون انفجارًا في تطور خلايانا المناعية حدث قبل 600000 سنة على الأقل (1).
ميدانُ السباق التطوري هو (glycocalyx)؛ محفظةٌ سكريةٌ تحمي الغشاء الخارجي لجميع الخلايا، وتتكون من عدد هائل من الجزيئات التي تتطاول من غشاء الخلية (أهم هذه الجزيئات هي أحماض السياليك- sialic acids) تغطي هذه السكرياتُ الحمضية -المكونة من تسع ذرات كربون أساسية- نهاياتِ عشراتٍ إلى مئاتِ الملايين من سلاسل الغليكان لكل خلية (3).
نظرًا إلى أهمية أحماض السياليك وعددها الهائل؛ عادةً ما تكونُ هي الجزيئات الأولى التي تواجهها العوامل الممرضة عند الدخول إلى خلايا الجسم.
يختص النوع (N-acetylneuraminic acid: Neu5Ac) من حمض السياليك بتغليف الخلايا البشرية، بينما تحمل خلايا القردة ومعظم الثدييات الأخرى نوعًا مختلفًا منه هو حمض (N-glycolylneuraminic: Neu5Gc).
تؤكد الأبحاث -ومنذ أكثر من مليوني سنة- حدوثَ طفرةٍ في جين على الصبغي السادس، جعلت من المستحيل على أسلافنا صنع (Neu5Gc) بعد ذلك؛ ليصنعوا المزيد من حمض السياليك (Neu5Ac) بدلًا منه.
من جهة؛ إن لهذا التغيير فضلًا على البشرية إذ لم تعد طفيليات الملاريا التي تصيب الشمبانزي قادرة على الارتباط بأحماض السياليك المتغيرة على كريات الدم الحمراء، ومن جهة أخرى؛ شكلت هذه الطفرات عبئًا على الجهاز المناعي لأنّ الحمض (Neu5Ac) أصبح البوابة المفضلة لدخول عدد كبير من العوامل الممرضة.
لكن؛ هل من المنطقي أن يكون هذا التغيير مُفردًا؟ أم هي سلسلة متلاحقة من التغييرات؟
في دراسة حديثة ومن خلال تحليل DNA الجينات المناعية لدى ستة أفراد من إنسان نياندرتال، واثنين من دينيسوفان، وألف من الجنس البشري الحالي، إضافة إلى عشرات الشمبانزي والبونوبو والغوريلا وقردة الأورانجوتان؛ وجد العلماء طفرات في ثمانية جينات مرمزة لبروتينات Siglecs المسؤولة عن تعرُّف أحماضِ السياليك وتمييزها عن الأخرى الخاصة بالعوامل الأجنبية الغازية على سطح الخلايا المناعية (1).
من الجدير بالذكر حدوثُ نفس التغير التطوري لدى الطيور وبعض الخفافيش والقوارض؛ ما يدفعنا إلى الربط مباشرة مع العديد من الأمراض التي تواجهنا في وقتنا الحالي، والتي عبرها انتقلت للبشر.
ختامًا؛ وفي دراسة أجريت في شهر آذار (مارس) 2020؛ توصّل العلماء إلى أن ما يقارب نصف العوامل الممرضة على كوكبنا تتخصص بإصابة نوع واحد فقط من المضيفين، وعلى النقيض من ذلك؛ تمتلك العوامل الممرضة غير المتخصصة طيفًا واسعًا يمتد إلى أكثر من رتبة Order مضيف واحد فقط: أي إن واحدًا من كل ثلاثة عوامل خامجة تقريبًا يتسمُ بتعدُّد المضيف (4).
هذا تمامًا ما يجعلنا في سباق متسارع تطوريًا مع الميكروبات؛ لضمان شحذ الجهاز المناعي قبل أن تتبدل إلى الشكل الأكثر قدرة خامجة.
المصادر: