لودفيغ فيتغنشتاين؛ والثورة المضادة على نفسه
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة الغربية
قدَّم فيتغنشتاين في مرحلته الأولى وجهات نظر جديدة في الميتافيزيقا عن طريق تطبيق المنطق عليها؛ شملت هذه الأفكار العلاقة بين العالم والفكر واللغة؛ ومن ثمَّ طبيعة الفلسفة، أما في المرحلة المتأخرة التي كتب فيها كتاب "تحقيقات فلسفية" (Philosophical Invistigatios 1953) فقد تقدّم بخطوة ثورية تتضمن نقد الفلسفة التقليدية بما فيها أعماله الخاصة السابقة الصادرة في مرحلته الأولى، وتميزت هذه المرحلة بكونها مرحلة مضادة للنسقية (Anti-Systematic)* ومع ذلك بقيت تفضي أفكاره في هذه المرحلة إلى فهم حقيقي للمشكلات الفلسفية التقليدية (1).
وكانت غاية فيتغنشتاين في مراحل فلسفته المختلفة هي تبيان إمكان حل مشكلات الفلسفة عن طريق فهم منطق اللغة، لكن أسلوب الحل في مرحلته اللاحقة اختلف جذريّاً عما هو عليه في فلسفته الأولى؛ إذ دشّن فيتغنشتاين بداياته الفلسفية بكتاب أطروحات فلسفية منطقية (Tractatus logicus Philosophicus) الذي قدّمه برتراند رسل (Bertrand Russel)، والفكرة الأساسية لهذا الكتاب هي وجود بنية منطقية أساسية للغة تبيّن حدود ما يمكن أن يقال بوضوح وبمعنى، وأهمية هذا الطرح هي أن ما يمكن أن يقال هو ذاته ما يمكن أن يفكّر فيه؛ لأن توضيح كيفية عمل اللغة وعلاقتها بالعالم الخارجي وارتباط المعنى بالجمل التي نقر بصدقها أو بطلانها هو ما يرسم حدود الفكر؛ وبما إن اللغة والفكر هما الشيء ذاته؛ فإن استكشاف اللغة سيؤدي إلى استكشاف الفكر (2).
يؤكد فيتغنشتاين على وحدة حدود اللغة وحدود الفكر، وخلف هذه الحدود لا تكون المعرفة مستحيلة علينا فحسب؛ بل نصل إلى ما هو غير قابل للتفكير فيه. واللغة هي مجموع قضايا، والقضايا هي التعبيرات اللغوية التي إما أن تكون صادقة وإما باطلة، وتحصل اللغة على معانيها عبر علاقة تقوم بينها وبين العالم، والعبارات التي يستحيل أن تكون طرفاً في هذه العلاقة لا تحوز في الواقع على أي معنى (3).
ويضيف فيتغنشتاين أنه عندما تعجز مجموعة من الكلمات أو الإشارات عن التعبير عن قضية ما؛ فإنها تكون هراءً؛ إذ لا يمكن عدُّها قضية صادقة أو كاذبة؛ بل تُعدُّ أنها لا تقول شيئاً إطلاقاً؛ لأنها تعجز عن تصوير أي شيء في العالم ومن ثَمَّ لا علاقة تربطها بالعالم، ويرى فيتغنشتاين أن أغلب قضايا الفلسفة هي قضايا من هذا النوع؛ ولأنها كذلك، فإن القضايا (الجمل) التي وظفها فيتغنشتاين في توضيح آرائه -وهي قضايا فلسفية- هي عبارة عن هراء، الأمر الذي جعله يقول: أي شخص يفهمني سيرى هذه القضايا هراء، عندما يستعملها كسلَّم لبلوغ ما وراءها؛ وبذلك يجب عليه أن يرمي السلم بعد أن يصعد إلى ما وراءها (2).
ولأن قضايا ومحتوى الأخلاق والدين ومشكلات الحياة تقع خارج نطاق الوقائع والحالات؛ فإنه لا يمكن قول شيء عنها، ومحاولة قول أي شيء عنها يترتب عنه توليد للهراء، ولا يعني هذا أن الدين والأخلاق عبارة عن هراء بحد ذاتهما؛ بل محاولة الحديث عنهما تكون كذلك، فأمور الدين والأخلاق تُظهر نفسها ولا يمكن الحديث عنها (2).
وبعد انتهائه من كتاب (أطروحات فلسفية منطقية)، أصبح فيتغنشتاين صامتاً في موضوعات الفلسفة لعدة سنوات، ليعود بعدها في عشرينيات القرن العشرين بأفكار مثيرة وجديدة في كتابه (تحقيقات فلسفية)، فبعد أن كان يركّز على اللغة البسيطة والواضحة والصياغة المنطقية للغة، ركز في مرحلة تفكيره اللاحقة أو المتأخرة على التنوعات في اللغة؛ إذ إن فلسفته التالية تهدف إلى الإشارة إلى الاختلافات في المفردات أو التعبيرات اللغوية وهو ما يسميه بألعاب اللغة، ليجد أنه من الصعوبة بمكان بلوغ الوضوح في التفكير والتعبير؛ لأننا نعجز عن ملاحظة أننا يجب أن نستعمل اللغة في سياقات الممارسة الحالية لكي تُفهَم، وهناك اختلافات في استعمال الجمل التي تبدو متماثلة في سياقات مختلفة أيضاً. لاحظ الجمل الآتية:
يطير السنونو بسرعة فائقة
Swallow flies very fast
كم يمر الوقت بسرعة!
How time flies!
يعبر القارب النهر
The boat flew down the river
في الأمثلة السابقة، يستبان أن العجز عن تمييز المعاني والاختلافات بين المفهومات، كمفهوم (fly) هو ما يؤدي إلى الخلط المفاهيمي؛ الأمر الذي يؤدي إلى حدوث الارتباك الفلسفي؛ ومن ثَمَّ فإن الحل هو أن يبحث الفلاسفة عما يحوز معنى، وأن يستكشفوا مصادر سوء الفهم؛ وبذلك أمِل فيتغنشتاين أن يوضح لنا أن أغلب الأسئلة والمواقف التي نتخذها للإجابة عن هذه الأسئلة تقوم على علاقة غير مرضية بيننا وبين الكلمات، وهو خلط لغوي نقول بموجبه أشياء دون معنى. وفي واقع الأمر فإن التحدي الذي يوجهه فيتغنشتاين إلى الفلسفة هو محاولة التفلسف والتفكير دون اتخاذ مواقف مسبقة أبداً (4).
*والفلسفة النسقية التي انتقدها فيتغنشتاين، هي الفلسفة التي تحاول تفسير العالم الواقعي عن طريق مجموعة من المعارف التي تجتمع في نطاق فكرة واحدة. وتمتاز الفلسفة النسقية بكونها فلسفة مجردة، ونظرية وثابتة وكلية واستنباطية (5).
المصادر:
2- Graeling, A.C. Wittgenstein: a very short introduction. Oxford university press. 2001. pp16-19, 38-39.
3- Shand, John. Philosophy and philosophers: an introduction to western philosophy. UCL press.1993. pp221-222.
4- Baggini, Julian. Great thinkers A-Z. Contuum. 2004. pp250-251
5- Cucen, A. Kadir. The distinction between the historical and the systematic approaches to philosophy. International Journal of humanities and management Sciences. Volume 5. Issue 1 (2017). p96.