مراجعة كتاب التشريح السياسي للسيطرة؛ الشمولية بين السيطرة والتهاون
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
عمليات شرعنة سيطرة السلطة
تستهل هيبو عناوين هذا الفصل في شرح آلية سعي الشعوب المُستبدَّة إلى حياة طبيعية، وتجنِّب الاصطدام مع السلطات، وفي المقابل تستغل السلطات هذا السعي في إحكام قبضتها على الشعب. وفي هذا السياق توضح كيفية نشوء الفساد في الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال؛ "استخدام شبكات شخصية وصلات غير رسمية للحصول على السلع والخدمات، وإيجاد وسيلة للالتفاف على الاجراءات الرسمية".
وتوضح أنَّ الصورة التي كانت تُرسم للفساد صورةَ العداء للسوفييت ما هي إلا خُدعة، فالمُمارسات المرفوضة علنًا كانت اتفاقًا ضمنيًّا بين السلطات والسُّكان.
وتذكر الكاتبة مثالًا آخرَ في ألمانيا النازية، فقد كان اقتصاد الهبات يشرعن السيطرة؛ إذ ينفق زعيم البلاد (هتلر) بسخاء الأموال العامة للدولة على بعض القادة العسكريين وأصحاب المناصب العُليا لكسب ودَّهم من جهة، وإحكام السيطرة من جهة أخرى، وفي إيطاليا الفاشية كانت الهدايا تصل إلى الزعيم (اللدوتشي) تأكيدًا للولاء وترسيخًا لمفهوم الزبونية.
ومع ذلك، فإنَّ هذه الأنظمة على اختلافها تسعى جديًّا إلى الاستقرار وتحقيق الأمن الاجتماعي ورَفْع سوية الشعوب الصحية والتربوية والتعليمية وتأمين المساكن، ففي ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي لا يخفى على أي باحث أنَّهما من البلدان التي دعمت الأبحاث العلمية والتطور التقني في بلادهما بما يتناسب مع توجهاتهما وتطلعاتهما.
وبالتعمق في الناحية الاجتماعية يُلاحظ أنَّه كلما زادت الدولة في عوامل الأمان ازداد الارتهان لها وفق تعبير هيبو "استخدام البرامج الاجتماعية هو واحد من أكبر تقاليد الزبونية الاستبدادية".
وتعود هيبو لتؤكد أنَّ تحقيق الأمن الاجتماعي لا يكون وسيلة لتحقيق السيطرة فحسب، وإنَّما تهدف إلى تهدئة العلاقات الاجتماعية وتحقيق شيء من العدالة أيضًا.
وتُفسر هيبو كيفية تأقلم الشعوب مع العنف الذي تمارسه عليها أنظمتها الاستبدادية بأنَّ تلك الشعوب تؤمن بأنَّه لبلوغ العظمة لا بد من استخدام شيءٍ من العنف لتحقيق الغايات التي تسعى إليها الدول، ولو وصل الأمر إلى عمليات التطهير العرقي.
وتذكر الكاتبة بعضًا من تلك العمليات التي تصفها بأنَّها عنف الدولة؛ أي العنف الذي لا يمكن أن يُستخدم إلا عن طريق الدولة وباسمها؛ كإبادة الأرمن في السلطنة العثمانية، ومنها محرقة اليهود أيضًا.
تعقيدات السيطرة نقد لإشكالية القصدية
يُعدُّ مصطلح "المؤامرة" أكثر المصطلحات المتداولة التي تساعد في فهم ما وراء معنى "القصدية" للفاعلين المؤثرين في مجتمع معيَّن وفق تعبير هيبو. وترى الكاتبة أنَّه لفهم السيطرة يجب دراسة سلوك أولئك الفاعلين إزاء السياسة الاقتصادية والرقابة السلطوية، وتقصِّي ردود أفعالهم وألاعيبهم في التنصل من السيطرة القسرية التي تمارس عليه، وتفسر ذلك وفق ميشيل فوكو "لا يعدم الإنسان العادي المكر أو الملاذ في مواجهة المحاولات الهادفة لجعله محرومًا أو مدجنًا".
في هذا الميدان يبدو المثال الألماني النازي خيرَ الأمثلة عندما بدأت السلطات خطتها للسيطرة على اقتصاد البلاد ومنابع الأموال كافةً، عملت كثيرٌ من الشركات على التقرب من السلطة وتقديم فروض الطاعة؛ لضمان عدم ابتلاع الدولة لشركاتهم، وكانت تكلفة ذلك تقديمُ تنازلات وخدمات ساعدت الدولة في الوصول إلى أهدافها السياسية، بغض النظر عن تلاقي الميول السياسية لأرباب تلك الشركات مع الميول التي اتبعتها الدولة، ولكنهم كانوا من المساهمين في الاقتصاد السياسي للنازية مساهمةً مباشرة أو غير مباشرة.
وتبتعد الكاتبة عن القارة العجوز، وتنتقل إلى المثال التونسي لشرح آلية تعامل رجال الأعمال في مواجهة سيطرة النظام السياسي، فقد كانوا متلاعبين بما يتناسب مع مصالحهم الاقتصادية ولا يتعارض مع مصلحة الدولة بآن معًا؛ إذ سعى كثير منهم إلى تقسيم شركاته إلى شركات صغيرة تفاديًا للظهور رقمًا كبير في الاقتصاد؛ ما سيضطره إلى دفع ضرائب باهظة للدولة.
ومن ناحية ثانية علموا أنَّ أعمالهم التجارية لن تمر دون مباركة السلطة المركزية؛ ما يعني خضوعهم لتقديم دعم ثابت للسلطة، فأثبتوا بذلك أنَّهم ليسوا رجال أعمال فحسب، بل هم سياسيون أكفاء يتلونون كالحرباء وفق الغصن الذي يقفون عليه.
في خاتمة الكتاب توضح هيبو أنَّ تناولها لتشريح الاقتصاد السياسي الذي قدمته في كتابتها اعتمد على رفض كثيرٍ من المصطلحات التي اعتاد بعضٌ استخدامها في وصف الأنظمة الشمولية مثل؛ "أطروحات "شراء" السكان، وأطروحات الزعيم، والقدرة على السيطرة والإرادوية، وأطروحة الاستغلال"، وهي تؤكد بذلك أنَّها قدمت طرحًا مختلفًا، وأنَّ اختيارها لمنهج المقارنة سار جنبًا إلى جنب مع عقلنة الوقائع والتفسيرات.
معلومات الكتاب: