هل المجتمعُ هو المسؤولُ عن اضطهادنا!؛ القهر الاجتماعي
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم الاجتماع
هذا النوع من القهر البنيوي لا يمكن القضاءُ عليه بتغيّر الحكّام أو بسنِّ القوانينِ الجديدة، وذلك لأنه متكرر تكرراً منهجيّاً وهو راسخٌ في المؤسسات الاقتصادية والسياسيّة والثقافيّة الكبرى وهناك مجموعةٌ محدَّدةٌ من الأشخاص هي المستفيدةُ من استمرارِ اضطهاد مجموعات أخرى وقهرها، وهم لا يدركون عادةً أنهم عملاء للقهر. وبذلك صُنِّفَت المجموعات في المجتمع وفق تسلسلٍ هرميٍّ اجتماعيٍّ على أساس العرقِ والطبقةِ الاجتماعيَّةِ والجنس والدين والقدرات. ويحصل أولئك الذين ينتمون إلى المجموعات المهيمنة أو المسيطرة على الحقوق والموارد وفرص تحسين نوعية الحياة وفرص أكبر بالحياة عموماً ويستفيدون من اضطهاد وقهر المجموعات الأخرى. أما المجموعات المقهورة التي تعاني الظلمَ؛ تحصلُ على حقوقٍ أقلَّ وإمكانيّةٍ أقلَّ للوصول إلى الموارد وقوّةٍ سياسيّةٍ أضعفَ وصحةٍ أسوأَ ومعدلاتِ وفيّاتٍ أعلى وفرصٍ أقلَّ في الحياة عموماً (1).
ويأخذ القهر الاجتماعي أشكالاً متعدِّدَةً ومتنوِّعَةً في حياتنا اليوميّةِ، وقد نراه بظلم في توزيعِ الموارد الذي يقصد فيه التباين في مستوى الدخل ومستوى المعيشة والأمن الوظيفي والمالي والاحتياجات الأساسية من مسكن و مياه والرعاية الصحية والتعليم؛ إذ توجدُ اختلافاتٌ كبيرةٌ في الدّخلِ ومعايير العيشِ بين الدولِ المختلفةِ، وبينَ مختلفِ المجموعاتِ العرقيّةِ والطبقاتِ الاجتماعيّة وبين الجنسين وبين المعاقين جسدياً وغير المعاقين في الدولة نفسها، وكذلك يندرج تحت ظلم توزيع الموارد التباين في توزيعِ الثرواتِ وكذلك الوصولُ لفرصِ التَّدريبِ والتّعليمِ والخبراتِ فهناك فئةٌ نخبةٌ تستطيعُ تأمين الدراسةِ لأبنائِها في مدارسَ وجامعاتٍ مميّزةٍ تَضمَنُ لهم اكتسابَهم مهاراتٍ وشهاداتٍ عاليَةً مما ينعكس على مستقبلهم، على الجانب الآخر هناكَ فئةٌ غيرُ قادرةٍ على تأمينِ الحدِّ الأدنى من التعليم وقد تجبرها ظروف الحياة على حرمان أبنائهم من التعليم وتنظر له على أنه رفاهية (1).
وأيضاً تسهم شبكةُ الرّوابطِ الاجتماعيّة (العائلة، والأصدقاء، والجيران، وزملاء الدراسة، والمعارف...) بتسهيلِ الوصولِ إلى الفرصِ وتوفيرِ المعلوماتِ والحصولِ على الوظائفِ وكذلك الدّعم العاطفي والمالي وإن اكتسابها والمحافظة عليها يتأثر بعوامل مثل الأسرة والطبقة الاجتماعية والانتماء لجماعة عرقية أو دينية معينة، وإنَّ الحرمان منها يندرج تحت ظلم توزيع الموارد والفرص (1).
ويعد القهر الجندري أحد أشكال القهر الاجتماعي اليومي ويتمثل بالاضطهاد بناءً على المعايير الجندرية والعلاقات التي يحددها المجتمع فهناك عواقب خاصة لكل من النساء والرجال مثلاً مبنية على الصورة النمطية لكل منهم، فالذكورة بصفاتها من العقلانية والاستقلالية والنشاط والقدرة التنافسية تجعل من الرجال الأشخاص المثاليين للمشاركة في مجالات الاقتصاد والسياسة مما يعطيهم فرصاً أكبرَ. أما الأنوثة بصفاتها المتمثلة بالعاطفة والتبعية والسلبية ودورها في الرعاية تجعل مكان المرأة الأنسب في الحياة الخاصة (أمهاتٍ وزوجاتٍ) وبعيداً عن الحياة العامة؛ مما أدى إلى تهميش النساء وهيمنة الرجال على معظم المؤسسات في المجتمع. ويتضح ذلك بمستويات أعلى من الفقر لدى النساء ومستويات أقل من السلطة السياسية الرسمية، وتشييء المرأة وتسليعها، وتحديات الرعاية الصحية، ومستويات أعلى من الخوف ومخاطر التعامل مع الآخرين والتعرض للعنف (2).
وإن أحد أشكال القهر الاجتماعي يتمثل في الظلم في الإجراءات والتعاملات والعقوبات. فهل يُعامَل جميع أفراد المجتمع بعدلٍ أمام القانون؟ وهل يعامَل جميع المجرمون ويحاكمون بعدل أم انتماؤهم لفئة معينة يجعل الحكم عليهم مخففاً أو أشدَّ؟ فالجميع يريد أن يعامل بأدب وكرامة واحترام من قبل الشرطة والقضاة والمعلمين والإداريين وأرباب العمل والمصرفيين والسياسيين وغيرهم، ولكن لا يمكن نكران أنَّ هناكَ فئاتٍ تحصلُ على احترامٍ أكبرَ ومعاملةٍ مختلفةٍ من الجميع وذلك يعود لمكانتهم وامتلاكهم رأسَ مالٍ أكبرَ وبذلك تظهر عدم العدالة في الإجراءات والعقوبات (1).
ومن أخطر مظاهر القهر الاجتماعي يأتي الاستبعاد والإقصاءُ الأخلاقي؛ ففي فترات تاريخية مختلفة وفي مختلف المجتمعات كان هناك جماعات وأفراد عوملوا بطرائقَ غيرِ إنسانيّةٍ من بقية البشر مثل العبيد مقابل الأسياد، والمواطنين الأصليين مقابل المستعمرين، والسود مقابل البيض، والمعارضين السياسيين مقابل السلطات السياسية، ومجموعة إثنية ليس لها سيادة في الدولة مقابل مجموعة إثنية ثانية تسود في كامل الدولة، والنساء مقابل الرجال، والمثليين جنسيًّا مقابل المغاييرين جنسيًّا، والأطفال مقابل البالغين، ويزداد الأمر سوءاً خلال فتراتِ الكسادِ الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية والصراعات الأهلية والحروب فبعض هذه الفئات تتعرض لخسارةِ وظائفها وتُستَبْعَدُ من الحصول على الموارد؛ لأنَّ قهرهم يعتمدُ على حرمانهم مشاركتَهم الكاملةَ في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمعاتهم (1).
وهناك مجموعة من العوامل تسهم في استمرار القهر الاجتماعي واستدامته ومنها القوة التي تتميز بها الفئة المسيطرة والمستفيدة من قهر بقية الفئات واستغلالهم، وتُعزَّز هذه القوة من خلال الثروة والمكانة والحجم والمعرفة والحلفاء والسمعة. وتساعدهم هذه القوة في السيطرة على الدولة ووضع القوانين والقواعد والإجراءات التي تنظم المؤسسات الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، المؤسسات الدينية، وسائل الإعلام)؛ ومن خلالها تُلقَّنُ الأفرادُ عقيدةَ تقبّلِ عدمِ المساواة في السلطة. وقد يلجؤون إلى الترهيب والعنف لضمان إبقاء بقية الفئات خاضعةً لهم. ويستخدم الظالمون (التاريخ، وقانون الطبيعة، وإرادة الإله، والعلم...) لإضفاء الشرعية على تفوقهم والتقليل من قيمة المظلومين وكذلك يعتمدون على خرافات التفوق الأخلاقي والفكري للجماعات المسيطرة وترسيخ الصورة النمطية لوصف المضطهدين بأنهم أغبياء وكسالى وغير أخلاقيين (1).
إن العلاقة بين الفئات المسيطرة والفئات المقهورة المضطهدة في المجتمع معقدةٌ ومشوَّهةٌ، يمكننا تخيّلُ حالةِ طفلٍ أو زوجةٍ أو مواطنٍ أو موظّفٍ مظلومٍ ويتعرَّضُ لسوءِ المعاملة فهو يعاني القلقَ والغضب والخوف من التعبير عن رغباته لأنه قد يتعرض للمعاقبة والمحاسبة من قبل المسيطر وهذا يؤدي إلى الإحباط. وللحد من هذا القلق ولاستيعاب التهديد يتماهى المظلوم مع الظالم ويؤدي ذلك للشعور بالذنب وكراهية الذات لاعتقاده بأنه تخلى عن نفسه. ونجد بأن الظالمين بحاجة إلى المظلومين؛ فهم بحاجة للسيطرة على الآخرين ويستمدون شعورهم بالقوة من ضعف المقهورين وعجزهم (1).
إن المعاناة لفترات طويلة من الظلم والقهر والاضطهاد تجعل الأفراد تتقبل وتتعايش مع هذا الواقع، فبينما يعيشون في مجتمع ظالم قد يظلمون أنفسهم وذلك بعدم مقاومة القهر والظلم.
أي إنه من الخطأ قمع الآخرين وقهرهم والإساءة إليهم وحرمانهم من حقوقهم ولكن من الخطأ أيضاً أن لا تقاوم وتواجه هذا القهر والظلم. ولكن لا يمكن نكران بأن التعرّض للقهر والظلم قد يؤثر في القدرات العقلية للأفراد -بحسب الدراسات- فمثلاً يسبب القهر خداع الذات؛ لأن النظم الاجتماعية القمعية تخلق للأفراد حوافز تجعلهم يصدقون الأكاذيب عن أنفسهم، وأيضاً يضرّ القهر الاجتماعي بقدراتهم على التصرف بعقلانية وقدرتهم على وضع الأهداف وترتيب الأولويات وكذلك يؤثر في الإرادة مما يدفعهم للاستسلام للصور النمطية المعممة عنهم بأنهم أشخاص كسالى أو متهورون أو غير مسؤولين. لكن هناك وجهة نظر مختلفة بأن الأفراد المهمشين قد يكون لديهم ميزة معرفية، فإن عيشهم على هامش المجتمع يجعلهم يعرفون بعض الأشياء أكثر من غيرهم وخصوصاً حينما يتعلق الأمر بهياكل القمع في المجتمع وذلك لأنه ليس لهم مصلحة في الحفاظ عليها (3).
في الختام قد تعاني مجتمعاتنا القهرَ الاجتماعيَّ والظلمَ والاضطهادَ ولكن من خلال وعينا وإدراكنا لهذه المفاهيم وأبعادها ومعرفة موقعنا بالتحديد فهل نحن ظالمون أم مظلومون؟ مسيطرون أم مسيطر علينا؟ حتى على مستوى علاقتنا الصغيرة سواء في عائلاتنا أو علاقتنا العاطفية أو أماكن العمل، فمن واجبنا العمل على رفع الظلم والتخفيف من حدته، وأنت كيف تواجه الظلم والقهر الاجتماعي إن واجهك؟
المصادر: