الإرادة الحرّة والحتميّة
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
1. نظرية الحتميّة السببيّة:
الحتميّة السببية هي نظريّة تقول بأنَّ مسار المستقبل يتحدد بالكامل من قبل الماضي وقوانين الطبيعة. ومن الجدير بالذكر أنَّ معظم الأبحاث المعاصرة في الإرادة الحرّة تركز على ما إذا كانت هذه الإرادة متوافقة مع الحتميّة السببيّة أم لا.
لفهم قدرة كل من الماضي والطبيعة على تشكيل هذا المسار المستقبليّ لنتخيل القضيّة "P" التي تصف الطريقة التي كان بها الكون كله في مرحلة ما من الماضي (قبل 100 مليون سنة مثلاً). لنتخيّل أيضاً أن القضيّة "L" تعبر عن اقتران كل قوانين الطبيعة. عندها، وبحسب نظريّة الحتميّة يكون هناك مسارٌ وحيد أو إمكانيّة واحدة لنهاية الأشياء تنتج عن اقتران كل من القضيتين P و L.
2- الحتميّة والعلوم و"شبه الحتميّة":
يتفق معظم الفلاسفة، سواءاّ أكانت الحتميّة صحيحة أم لا، أنّ الحتميّة السببيّة نظريّة مشروطة. وبالتالي فإنَّ الحتميّة ليست بالضرورة صحيحة أو خاطئة. إنَّ كون الحتميّة صحيحة أم لا هو مسألة تجريبيّة يتّم كشفها من خلال التحقيق في بنية العالم وليس من خلال الحجج الفلسفيّة. والحقيقة الحتميّة تستلزم أن لا تكون قوانين الطبيعة مجرّد احتمال. فإذا كانت هذه القوانين مبنيّة على مبدأ الاحتمال لا يترتب على ترابط الماضي وقوانين الطبيعة مستقبل محدّد.
لذلك، ولتحديد فيما إذا كانت الحتميّة حقيقة أم لا علينا أن نتأكد فيما إذا كان الطبيعة مبنية على مفاهيم احتماليّة أم لا.
في مقاربة فيزيائيّة لمفهوم الحتميّة، نرى أن الفيزياء الكلاسيكيّة مبنيّة بشكلٍ أساسيّ على هذه الحتميّة، فنحن نستطيع نمذجة حركات الأشياء من حولنا ( السيارات والطائرات.. إلخ) بشكلٍ دقيق من دون اعتماد على الطبيعة الاحتماليّة. إلا أن بعض المفاهيم الفيزيائيّة الحديثة تشكك في صحّة الحتميّة. فعلى سبيل المثال وبحسب المفهوم المعياري لنظريّة الكم الناتج عن اجتماع كوبنهاجن، فإنَّ القوانين التي تحكم الطبيعة ليست حتميّة وإنما احتماليّة. ووفقاً لهذا التفسير لا يمكن نمذجة حركة الجسيمات الصغيرة كالكوراكات إلا من خلال المعادلات الاحتماليّة. فوفقاً لهذه المعادلات والطبيعة الاحتماليّة للبنيّة الكوانتيّة نتسطيع أن نتوقع أرجحيّة أن تسلك الكواركات اتجاهاً معيناً دون أن يكون ذلك مؤكداً مما ينفي مبدأ الحتميّة. ولكن ومن جهة أخرى فهنالك بعض المفاهيم في ميكانيكا الكمّ التي تعتمد بشكل أساسيّ على مبدأ الحتميّة مثل نظرية العوالم المتعددة.
نظراً لهذا الاختلاف بين الفيزياء الكلاسيكيّة والفيزياء الكوانتيّة في إطار الحتميّة الفلسفية نستطيع أن نتجنبّ هذه المقاربة في إطار طرحنا الفلسفيّ.
بالعودة إلى طرحنا الفلسفيّ، ما هي الآثار المترتبة على الحتميّة أو شبه الحتميّة؟ وبشكل محدد أكثر، ما هي الآثار المترتبة على مسائل الإرادة الحرّة؟
3- التلائم والتعارض والتشائم:
بعد إعطاء فكرةٍ بسيطة عن الحتميّة السببيَّة والمقاربة الفيزيائيّة لهذا الموضوع سوف نحاول التوفيق بين الحتميّة السببيّة والإرادة الحرّة.
إنّ الإرادة الحرّة لا تتعارض مع مبدأ الحتميّة، فصحة مبدأ الحتميّة لا تقتضي بالضرورة أن لا توجد الإرادة الحرّة، ولهذا يدعى وجود الإرادة الحرّة في عالمٍ حتميّ بمبدأ التلاؤم أو التوافق، ويسمى الأشخاص الذين يعتقدون بالإرادة الحرّة في هذا العالم بالمتلائمين Compatibilists.
ومن وجهة نظرٍ أخرى يرى البعض بأن مبدأ الحتميّة يتنافى مع وجود الإرادة الحرّة، أي أنّه لا وجود للإرادة الحرّة في عالمٍ حتميّ وهذا ما يعرف بعدم التلاؤم.
بالإضافة إلى ذلك، إذا افترض أحدٌ ما أن امتلاك المرء لحريّة الإرادة يحتّم كونه مسؤولاً أخلاقياً عن أفعاله، عندها يقتضي عدم التوافق بين الإرادة الحرّة والحتميّة عدم توافقٍ بين المسؤوليّة الأخلاقيّة والحتميّة.
هنالك نوعان على الأقلّ من اللامتلائمين:
1- يؤمن بعض المعارضين للتلاؤم أنَّ الحتميّة هي حقيقة العالم، ولذلك فإن أيَّ شخصٍ ينتمي لهذا العالم لا يمتلك حريّة الإرادة.
2- بينما يؤمن البعض الآخر بأنَّ العالم ليس بحتميّ وأنّه يوجد أشخاصٌ في هذا العالم يمتلكون حريّة الإرادة.
ومع ذلك فإن هذين الموقفين ليسا بشاملين. فمن الممكن أن يعتقد أحد المعارضين لمبدأ التلاؤم بأنَّ العالم الفعليّ ليس بحتميّ ومع ذلك يعتقد بعدم امتلاك الأشخاص في هذا العالم للإرادة الحرّة.
من المهم أيضاً الأخذ بعين الاعتبار أن كلاً من التلاؤم وعدم التلاؤم مسألة احتماليّة. فوفقاً لشخصٍ يعتقد بمبدأ التلاؤم من الممكن أن يكون الإنسان محكوماً بالحتميّة ومتمتعاً بالحريّة في الوقت نفسه. ومن ناحية أخرى يؤكد الشخص الذي لا يعتقد بمبدأ التلاؤم استحالة الطرح السابق.
بالنهاية: هناك أشخاصٌ متشائمون بحريّة الإرادة. أشخاصٌ يتوافقون مع الغير متلائمين بأنَّ حريّة الإرادة ليست بممكنة إذا كانت الحتميّة حقيقة. ولكنهم، وعلى عكس اللامتلائمين يعتقدون بأن لللاحتميّة آثار سلبيّة على الإرادة الحرّة.
المصدر: هنا
مصدر الصورة: هنا