هل كنَّا نعرف كلَّ شيءٍ قبل أن نولَد؟! أفلاطون يُجيب
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة اليونانية
إن أفلاطون في محاوراته يُناقش القيمَ والأخلاق والمعرفة على لسان شخصياته الحوارية وأشهرها سُقراط، ويأخذ بالقارئ إلى عالم تتراقص فيه المُثل والقيم مع القصص اليومية التي نعيشها.
في هذه المحاورات، يمكن أن نميِّز ثلاثَ مراحل مرَّت بها المحاورات، فتتَّصفُ الأولى منها بكون سقراط هو المُحاورُ الأساسيُّ فيها، ومن هذه المحاورات: كريتو، يوثيفرو، ليسيس، لاخيس، مينون، وفيثاغورث. تحمل هذه المحاورات معتقدات سقراط، وتُناقش في معظمها قضايا الأخلاقِ والفضيلة.
فيما تتَّصف المرحلة الثانية بأنَّها تحوي آراءَ أفلاطون، مع أنَّ أستاذه سقراط هو المتحدِّث فيها أيضاً، ومنها: فيدون والجمهورية.
إن هذه المحاورات تناقش قضايا معرفية وميتافيزيقية، ونجدُ فيها أفكاراً عن خلود الروح وعالم المثُل، ونظريَّة التذكُّر (Theory of recollection -Anamnesis-) الَّتي تفترض أنَّ الرُّوح الخالدة في هيئةٍ غيرِ مجسَّمة وقبل تجسُّدها في الجسد، تكون قد اطَّلعت على المُثل الموجودة خارج الزَّمان والمكان، وهي المعرفة التي ستستعيدها الروح بعد تجسدها بعملية مُضنية (1).
وقد ورد ذكرُ نظرية التَّذكر أوَّلَ مرَّةٍ في محاورة مينون، بوصفها جواباً للسؤال الإيبستمولوجي الآتي: كيف يمكننا أن نعرف أنَّ افتراضاً ما يكونُ صحيحاً لنتجنب جدالاً غيرَ مجدٍ عنه؟ فأفلاطون على لسان سقراط يحاورُ مينون عن الفضيلة، وعندما يفشلُ الأخير في تعريفها يعرض أفلاطون أطروحَته عن التَّذكُّر بوصفها طريقة للمعرفة (2).
ويشرح أفلاطون ذلك على لسان سُقراط من خلال مرحلتين: تحفيزُ الآراءِ الصحيحة والموجودةِ في داخلنا من خلال طرح الأسئلة مراراً وتكراراً بالشَّكل الصَّحيح، ومن ثم تتحوَّل هذه الآراء إلى معرفة (3).
يبتدأ أفلاطون محاورة فيدون بافتراض أن الروح تنشد الحريَّة من الجسد لتصل إلى الحقيقة لأنَّ الجسد يكبحها، ويذكر على لسان سبياس (Cebes) كيف أنَّ وجود الرُّوح يسبق تجسُّدها في الجسد؛ إذ تعلَّمت ما نقوم الآن بتذكُّره وتسميته بالمعرفة (1).
وعلى لسان سقراط يحصل التذكُّر عندما يذكر س شخصاً ب ع (مثلاً عندما تُذكِّر صورةُ سيميس (Simmias) شخصاً بسيميس)، وذلك عند تحققِ الشروطِ الآتية:
١. على الشَّخصِ أن يكون ذا معرفةٍ مسبقةٍ ب ع (أن يعرف سيميس مُسبقاً).
٢. عندما يحسُّ الشَّخص أو يدركُ س، سيميِّزُ س ويفكِّرُ ب ع (عندما يدرك الشخص صورة سيميس سيفكر بسيميس).
٣. يجب أن لا تكونَ ع هي ذاتَ الموضوع المعرفيِّ ك س (فنحن سنميز صورة سيميس عن سيميس ذاتهِ لأنَّهما ليسا ذات الموضوع المعرفي).
٤. مع الأخذ بعين النظر أن التَّذكر يحدث بواسطةِ أشياء متشابهةٍ وأشياء غير متشابهة (مثل سيميس وصورته مقابل سيميس وقيثارته)، فعندما يحدث بواسطة أشياء متشابهة، يجب أن ينتبه الشخص إلى أن س ناقصٌ مقارنةً مع ع (نميز صورة سيميس عن سيميس نفسه عندما ندرك كيف أن صورة سيميس ناقصة مقارنةً بسيميس باعتبار أنها صورة).
ينطلق سقراط ممَّا سبق ليدَّعي أنَّ تذكرَ الشَّخص للمُثُل هو ما يثبت الوجودَ المسبقَ للرُّوح (1).
ووفقاً لجانبٍ آخرَ من نظريَّة التَّذكر، تتباينُ نظريَّتي أفلاطون وسقراط عن الفضيلة، فعندما يرى سقراط أنَّ المعرفة الأخلاقيَّة تحتاج لمعيارٍ خارجيٍّ تُستَمدُّ منه، يرى أفلاطون أنَّ الأخلاق لا تحتاج لهذا المعيار (3).
إذا أردنا أن نعدَّ التَّذكُّر نظريَّةً معرفيَّةً فسنكون في موضِعِ جدال، فحتى أفلاطون لم يقدِّم دليلاً مُقنعاً في محاوراته على المعرفة الداخليَّة الَّتي نعيد اكتشافها من داخلنا، ناهينا عن افتراضات أُخرى كالرُّوح بنى عليها أفلاطون نظريَّتَهُ، ومع ذلك فإنَّ محاوراتِ أفلاطون مبنيَّةٌ على أنَّ تذكُّرَ المُثُل هو مصدرُ المعرفة الَّتي يُسقط على العالم الخارجيِّ حولَنا.
المصادر:
2. Gulley N. Plato's Theory of Recollection. The Classical Quarterly [Internet]. 1954;4(3-4):194-213. [cited 13 August 2021]. Available from: هنا
3. Irwin T. Recollection and Plato’s Moral Theory. The Review of Metaphysics [Internet]. 1974 [cited 13 August 2021];27(4):752-772. Available from: هنا