مفهومُ الانسحابِ الأخلاقيِّ وآليّاتُه
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم الاجتماع
عندما يتغيرُ التوصيفُ بين القاتلِ والضحية، أو بين المظلومِ والظالم!
عندما نَعُدُّ شخصًا ما طيّبًا، أليس من الممكنِ أن يكونَ هو نفسُه في مجتمعٍ آخرَ على نقيضِ ذلك؟
عن التأثيرِ الاجتماعيِّ وحُكمِ المجتمعِ على الأفعالِ نتحدث، أيْ ما يُدعى آلياتِ الانسحابِ الأخلاقيّ. إليكم هذا المقال.
في المراحلِ الأولى مِن التطوُّرِ النفسيِّ لدى الإنسان، يكونُ السلوكُ محكومًا إلى حدٍّ بعيدٍ بالقواعدِ الاجتماعية، وعندما يبدأُ الأشخاصُ بالانخراطِ أكثرَ في بيئتِهم المباشرة، فإنهم يبدؤون بالحكمِ على تصرفاتِهم وَفْقًا لما تسمحُ به مجتمعاتُهم، ويُبْدُون مَيْلًا للقيامِ بالأفعالِ المحمودةِ مِن قِبَلِ أقرانِهم وذويهم؛ لتنميةِ شعورِهم بالأهمية.
وعلى ذلك، فإنَّ ممارسةَ العاملِ الأخلاقيِّ تتجلَّى في شكلين:
• تحفيزيّ.
• تثبيطيّ.
يتجسَّدُ الأولُ في الميلِ إلى القيامِ بأفعالٍ إنسانية، بينما يكْمُنُ الثاني في القدرةِ على الابتعادِ عن اقترافِ الأعمالِ غيرِ الإنسانية. في المَنْحى التحفيزيِّ لممارسةِ الأخلاق، يقومُ الأفرادُ بتوظيفِ شعورِهم بالأهميةِ إلى حدٍّ كبيرٍ في القِيَمِ الإنسانيةِ والالتزاماتِ الاجتماعية، مما يدفعُهم إلى القيامِ بما هو إنسانيّ، وإنْ تسببَ لهم ذلك في بعضِ الأحيانِ بمشاكلَ شخصية. لذا؛ فإنَّ الفشلَ في القيامِ بما هو صحيح يُسْفِرُ عن سُخْطِ المجتمع، ونَبْذِ الأفرادِ الذين لم يلتزموا بقواعده.
إلا إنَّ المعاييرَ الأخلاقيةَ لا تعملُ دومًا بصفتها ضوابطَ داخليةً ومستقلةً لتصرُّفاتِنا؛ فإنَّ آليَّاتِ الضبطِ التي تحكمُ الجانبَ الأخلاقيَّ لدى الإنسانِ لا تَظهرُ إلا إذا تمَّ تفعيلُها، كما أنَّ هنالك الكثيرَ من العواملِ النفسيةِ والاجتماعيةِ التي تتيحُ فصلَ الضوابطِ الأخلاقيةِ بشكلٍ انتقائيٍّ عن الأفعالِ غيرِ الإنسانية. عندما يجدُ بعضُ الأشخاصِ أنفسَهم وجهًا لوجهٍ أمامَ تصرُّفٍ غيرِ إنسانيّ، فإنهم يَلجؤون إلى بعضِ الآليَّات؛ لإبعادِ اللومِ عن أنفسِهم، ولتجنُّبِ تعرُّضِهم للنَّبْذِ مِن مجتمعاتِهم. يقومُ ألبيرت بانديورا، عالمُ النفسِ والاجتماعِ في جامعةِ ستانفورد، بدراسةِ هذه الآلياتِ تحتَ عنوانِ ظاهرةِ (الانسحابِ الأخلاقيّ). يرى بانديورا أنَّ الانسحابَ الأخلاقيَّ هو عبارةٌ عن إعادةِ هيكلةٍ إدراكيّة، يقومُ بها الأشخاصُ لإضفاءِ طابِعٍ أخلاقيٍّ على تصرفاتِهم غيرِ الأخلاقية. تلمُّ هذه العمليةُ عبرَ فصلِ البُعْدِ الأخلاقيِّ عن العملِ المُقتَرَف؛ وذلك من خلالِ آليَّاتٍ كثيرة، نذكرُ منها:
1- التبريرُ الأخلاقيّ:
إنَّ الأشخاصَ غالبًا لا ينخرطون في تصرُّفاتٍ وحشيَّة، إلا بعدَ إيجادِ مبرِّراتٍ لإقناعِ أنفسِهم بصحةِ ما يقومون به. ومِن خلال عمليةِ التبريرِ الأخلاقيّ، تُحَوَّلُ الأفعالُ المسيئةُ إلى أمورٍ مقبولةٍ شخصيًّا واجتماعيًا؛ بتقديمِها على أنها ستعودُ بالنفعِ على المجتمع. على ضوءِ ذلك، تبدو الاختلافاتُ في القوانينِ الاجتماعيةِ بين منطقةٍ وأخرى، واستخدامُ الأساليبِ العنيفة؛ شكلًا من أشكالِ التبريرِ الأخلاقيّ. إنَّ التغييراتِ الجِذْرِيَّةَ في السلوكِ العدوانيِّ مِن خلالِ آليَّةِ التبريرِ الأخلاقيّ؛ تبدو بصورةٍ جليّةٍ في حالاتِ الهجومِ العسكريّ، إذْ إنَّ تحوُّلَ المقاتلين مِن أناسٍ اجتماعيينَ إلى جنودٍ متفانين؛ لا يكونُ عبرَ تغييرِ بُنْيَةِ شخصيَّاتِهم، بل عبرَ إعادةِ تعريفِ أخلاقيَّاتِ القتل؛ لكي يتمكنوا مِن اقترافِه دونَ التعرُّضِ للنقدِ الذاتيّ. وهكذا يرى بعضُ القتَلةِ أنفسَهم مقاتلينَ شجعان، يقدِّمون أرواحَهم في سبيلِ غايةٍ مشرِّفة. ولعلّ الأديبَ الفرنسيَّ فولتير قامَ بصياغةِ الأمرِ بأفضلِ شكلٍ حين قال: «إنَّ أولئك الذين يجعلونَك تؤمنُ بالتفاهات؛ يستطيعون دفعَك لارتكابِ البشاعات».
2- التلاعبُ اللفظيّ:
تقومُ اللغةُ بتشكيلِ أنماطِ التفكير، والتي تنبثقُ عنها الأفعال. إنَّ طريقةَ نظرتِنا للأفعالِ ذاتِها قد تختلفُ تمامًا باختلافِ طريقةِ تسميتها. لذلك فلا عجبَ في أنَّ اللغةَ التلْطيفيَّةَ تُستخدَمُ على نطاقٍ واسعٍ لجعلِ التصرفاتِ الـمَشِينَةِ تبدو محترمة، ولتقليصِ مسؤوليةِ الأشخاصِ عنها. وهكذا يصبحُ الأبرياءُ والمدنيُّونَ مِن قتلى الحروب (أضرارًا تَبَعِيَّة)، ويصبحُ إيقاعُ الخسائرِ والقتلى في صفوفِ الطرفِ الواحد (نيرانًا صديقة).
3- المقارناتُ النفعيَّة:
يقومُ الأشخاصُ الذين يمارسون أفعالًا غيرَ إنسانيةٍ بمقارنةِ أفعالِهم بتلك التي يرتكبُها خصومُهم؛ لصَبْغِ تصرُّفاتِهم بصِبْغةٍ أخلاقيّةٍ عبر المقارنة. ومثالُ ذلك ما يقومُ به الإرهابيُّون من مقارنةِ أفعالِهم بما تتعرضُ له شعوبُهم مِن ظلمٍ وقهر، معتبرين تصرُّفاتِهم -في هذا الضوء- نوعًا من البطولةِ وردِّ الاعتبار.
4- إزاحةُ المسؤولية:
يُبدي الأشخاصُ تقبُّلًا للقيامِ بأفعالٍ غيرِ مقبولةٍ اجتماعيًّا، حين تقومُ سلطةٌ عُلْيَا بإضفاءِ طابِعٍ شرعيٍّ وقانونيٍّ عليها، على الرَّغمِ مِن أنَّ هؤلاءِ الأشخاصَ أنفسَهم قد يَنْبِذُون تلك التصرُّفاتِ إنْ قاموا بها بشكلٍ فرديّ. فمِن خلالِ إزاحةِ المسؤولية، يظهرُ مرتكبو الإساءاتِ مجردَ موظَّفين، وأتباعًا خاضعين يقومون بواجباتِهم. ومِن الأمثلةِ على ذلك تصرُّفاتُ بعضِ الجنودِ في سجنِ أبي غريب، على الرَّغْمِ مِن شهاداتِ الكثيرِ مِن معارفِهم وذويهم، التي تنفي وجودَ نَزْعَةٍ عدوانيَّةٍ أو عنيفةٍ في سلوكهم.
5- تشتيتُ المسؤولية:
إنَّ ممارسةَ الضبطِ الأخلاقيِّ تَضعُفُ عندَ التعتيمِ على الانخراطِ الشخصيِّ للفرد؛ مِن خلالِ توزيعِ المسؤوليةِ على عددٍ مِن الأشخاص؛ فالشعورُ الشخصيُّ بالمسؤوليةِ يمكنُ أنْ يتقلَّصَ بشكلٍ ملحوظٍ مِن خلالِ تقسيمِ العمل. إنَّ أغلبَ الشركاتِ تحتاجُ خدماتِ الكثيرِ مِن الموظفين، حيث يقومُ كلٌّ منهم بأعمالٍ موزَّعةٍ تبدو غيرَ ضارَّةٍ بمفردِها. وبعدَ أنْ تترسَّخَ رؤيةُ بعضِ النشاطاتِ على أنها أجزاءٌ منفصلة، يبدأُ الأشخاصُ بتحويلِ انتباهِهم، عن حقيقةِ ما يقومون به، إلى تفاصيلِ وفاعليَّةِ أدائِهم. كما أنَّ إصدارَ القراراتِ بالإجماعِ يُعَدُّ ممارسةً أخرى تسهِّلُ قيامَ أشخاصٍ لطيفين عادةً بالتصرُّفِ بشكلٍ قاسٍ.
6- تشويهُ النتائج:
يصبحُ مِن الأسهلِ إيذاءُ الآخرين عند إمكانيةِ إخفاءِ عذابِهم، وحين تكونُ الأفعالُ المؤذيةُ بعيدةً مادِّيًّا وزمنيًّا عن نتائجِها. إنَّ تكنولوجيا الموتِ في يومِنا هذا أصبحت شديدةَ البطش، إلى جانبِ اتِّسامِها بـ(اللّاشخصَنَة). يخوضُ العالمُ الحاليُّ حروبًا شعواء، يكونُ فيها الدمارُ الشاملُ عن بُعدٍ بدقّةٍ متناهية، عبرَ أنظمةٍ تُسَيِّرُها الحواسيبُ وأشعةُ الليزر. يصبحُ الأشخاصُ أقلَّ طواعيةً لتنفيذِ أوامرِ السُّلُطاتِ المؤذية، وأكثرَ مَيْلًا للشعورِ بتأنيبِ الذات، حين تصبحُ آثارُ ألمِ الضحايا أكثرَ وضوحًا وشخصنة. على سبيل المثال، مُنحت جائزةُ بوليتزر لصورةٍ مؤثرةٍ التَقَطت صَرَخاتِ طفلةٍ معذَّبةٍ احترقتْ ملابسُها؛ جرَّاء قذائفِ النابالم في قريتِها في فييتنام. إنَّ ما جسّدتْه هذه الصورةُ وحدَها مِن تجسيدٍ للدمارِ في إطارٍ إنسانيّ، قد تركَ لدى عامةِ الأمريكيين انطباعًا قويًّا، فاق كلَّ التقاريرِ الصَّحَفيَّة -التي لا تعدُّ ولا تحصى- عن الحرب. في الوقتِ الحاضر، يمنعُ الجيشُ آلاتِ التصويرِ والصحفيينَ مِن مواقعِ القتال؛ لمنعِ تسريبِ صورِ الموتِ والدمار.
7- تجريدُ الضحايا مِن إنسانيتهم:
يمكنُ للأشخاصِ تفادي تأنيبِ الذاتِ تِجاهَ ارتكابِ السلوكِ العدوانيّ، مِن خلالِ سَلْبِ الضحايا سِماتِهمُ التي تجعلُهم بشرًا كغيرِهم. ومتى كان ذلك، أصبحَ مِن الصعبِ رؤيتُهم أشخاصًا ذوي آمالٍ ومشاعرَ واهتمامات، بل يتحوّلون إلى كائناتٍ دونَ الإنسان، ويُنظَرُ إليهم على أنّهم (رِعاعٌ) و(هَمَج). في حالِ لم يكنْ تجريدُ الآخرينَ مِن إنسانيَّتِهم كافيًا لإضعافِ الضبطِ الأخلاقيّ، فإنَّ الأشخاصَ يَعْمَدُون إلى إلْصاقِ سِمَاتٍ شيطانيةٍ بهم؛ فيصبحون (وحوشًا) و(أتباعًا للشيطان).
في النهاية، لا بدَّ مِن القولِ بأنَّ الكثيرَ مما يرتكبُه الإنسانُ مِن أهوال، يكونُ نتيجةَ تبريراتٍ والتفافاتٍ يختلقُها حولَ مبادئِه التي تَشَرَّبَها منذُ صِغَرِه مِن بيئتِه المحيطة، أكثرَ مِن كونِه مَيّالًا إلى الثورةِ على معتقَداتِه.
تساعدُ آليَّاتُ الانسحابِ الأخلاقيِّ الأشخاصَ على تجاوزِ المعضلةِ الأخلاقيةِ التي يجدون أنفسَهم أمامها حينَ يريدون الإقدامَ على الشرِّ دونَ الرغبةِ في تحمُّلِ المسؤوليةِ الناجِمَةِ عن سلوكِهم، فضلًا عن إراحةِ الأفرادِ مِن عِبْء اللومِ الذاتيّ؛ فإنَّ هذه الآليَّاتِ، حين يمارسُها الفردُ بصفتِه جزءًا مِن المجموعة؛ تمنحُه شعورًا مغلوطًا بالتفوُّقِ على كلِّ مَن يخالفُه، كما هو الحالُ في آليَّتَي التبريرِ الأخلاقيّ، والمقارنةِ النفعيَّة.
* الصورة هي للفنان Santiago Caruso
المصدر:
Bandura، Albert. “Moral Disengagement in the Perpetration of Inhumanities.” Personality and social Psychology Review. 3:3 (1999). 193-209. Scribd. PDF file.