الترجمةُ توظيفاً لحركية النصوص: قراءة في فلسفة عبد السلام بنعبد العالي عن الترجمة
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
فيتحدث بنعبد العالي أولاً عن كون النص الأصل غير المُترجم نتاج "ترجمة" المؤلف له، فالكاتب يدرس بنات أفكاره ويحوِّلها بنفسه من الإطار الذهني الصوري الشعوري الداخلي، إلى الإطار اللغوي الموضوعي الخارجي، مُخضِعاً فكره إلى منطق اللغة وإمكاناتها كي يُمثلَه خارجاً على الورق، وفي هذه العملية قد ينجح في المطابقة بين الكلمة والفكرة، وقد يجد نفسه ملامساً للفكرة من بعيد، وعاجزاً عن الاقتراب من قيود اللغة العديدة.
وبمعنى آخر، فإن "النص الأصل" بالمفهوم الأفلاطوني غير موجود حقيقةً على المستوى اللغوي، ذاك أن الكاتب إن شرعَ في التأليف فإنهُ بذلك يترجمُ نفسه وفكره، ومن هنا "كلُّ نصٍّ، حتى إن ظلَّ غير مُترجم، فهو ترجمة. فليست الترجمة عملاً ثانويَّاً يأتي بالمرتبة الثانية، وبعد كتابة النص الأصلي.
إن سلَّمنا بأن المترجم مؤلِّفُ، فينبغي بالأحرى أن نسلِّم بأنَّ المؤلِّف، أيضاً، مُترجم"[1]
ويعتمد بنعبد العالي على مفهوم جيل دولوز عن "قلب الأفلاطونية" لرؤية النصوص والترجمات، ففي نظره ليس للنص الأول فوقية على ترجماته العديدة، فهو إن كان أصلاً أو نسخة عن نفسه فإن الترجمة له تقوم مُستقلة بفكرته لتعبِّر عنها من منظور المترجم ولغته وسقفه المعرفي وإطار مفرداته، أو ما يدعوه جيل دولوز "بشدَّة" النص أو الدفق العاطفي الذي يُكتب فيه، وفي نظر بنعبد العالي، "ليس مُهماً أن نقول قولاً، وإنما أن نُكرر القول، وأن نقوله كلَّ مرة، وكأنه قيل لأول مرة"[2] وهذا إيمان بالمحاولة الإنسانية اللغوية في أيَّة لغة وأيَّة ثقافة.
نتيجة لذلك، ولأننا في أثناء أول قراءةٍ للنص لن نكونَ أمام "أصلٍ" أفلاطوني و"نسخةٍ" عنه أدنى منه، فإن إمكانيات فهم الترجمة والتأليف تنفتح أمامَ المُفكر \ القارئ، ويغدو الفكر متجهاً إلى الإنسان لا إلى "النموذج الأصل"، أي إلى ما يُمكن للمرء أن يُنتجه بعد امتلاكه الأداة والموضوع، وعادة ما ننظر إلى الترجمات عندئذٍ على أنها إحدى لحظات الاستنساخ التي تدرس الأصل وتبعث فيه الحياة في لغةٍ أخرى وعند شعبٍ آخر وثقافةٍ أخرى، فكلُّ نصٍّ حيٍّ بين أهل لغته يُعدُّ ميِّتاً بين بقية الثقافات والشعوب، ولا تُبَث فيه الحياة إلا بإقامة استنساخ يوازي الأصل أهمية من جهة تناوُلِ الفكرة وإمكانية التعبير عنها، ومن جهة الارتقاء بالمحاولة الإنسانية اللغوية لقول الشيء ذاته:
"إن الترجمة ليست أبداً علامة على تبعية. إنها ليست قّهراً للآخر، ولا ارتماءً في أحضانه، وإنما هي تحوُّل وتجدُّد وترحال وانفتاح وتلاقح وتكاثر وحياة"[3]
لذلك نجد بنعبد العالي متمسكاً بنظرية أصفها بالرومنسية تجاه فعل الترجمة وشخصية المُترجم، وإن كان ينفي المفهوم الثيولوجي عن الترجمة ومعاني "الخيانة" التي تؤمن بالأصل فوق الترجمات وتقلِّلُ المحاولات الإنساني التي لا يعيش النصُّ إلا بها وعبرها، فإنه يُثبت أن لا وجود لأخلاقيات الترجمة، ولا وجود لذاتٍ يجب أن تكون أخلاقية وهي تمارس الترجمة بين النصوص، لأن الترجمة آنذاك ستكون فعلاً فاعلُه اللغة ذاتها، مدفوعة بالنص الأصل الذي "يتوق" إلى أن يُترجم وأن تكتب له حياة جديدة عند ثقافة أخرى.
ويقول بنعبد العالي أنَّ النصوص تتمتَّع بشوقٍ كبير إلى الخروج من ذاتها، لكي تؤوَّلَ بغير تأويل، وتحملَ معانٍ مغايرة، وتصورات مختلفة عن التي اعتادتها عند أهلها، إنه يُثبت نوعاً من الذاتية على النص التي تتجه إلى الآخر الغريب وتحاول فهمَ نفسها عبره ومن خلاله، إنها تطلب أن تعيش تجربة مختلفة تتمثل بها وتمتزج بالعنصر الإنساني الفاعل والمؤوِّل الذي يحملها إلى آفاق جديدة لم تكن لتصل إليها بلغتها الأصل، وفي ذلك تقدير كبير للعوالم العديدة التي تنطوي عليها اللغات عند مختلف الثقافات، أو مثلما وردَ على لسان دريدا في الكتاب: "إن الأصلَ هو أوَّل مدين، أوَّل مطالب، إنه يأخذ في التعبير عن حاجته إلى الترجمة، وفي التباكي من أجلها"[4]
وفي متابعته هذه الفكرة، يصل بنعبد العالي إلى "فلسفة" تخصُّ الترجمة، فبناءً على ما سبق، يحتاج المُترجم إلى أن يصل إلى لغة ثالثة بعد اللغة المصدر واللغة الهدف، تتوسطهما وتخلق للفكرة المُقالة عالماً لغويَّاً مفتعلاً يمتزج بذات المترجم أكثر مما يمتزج بخصائص اللغتين الأولى والثانية، وبالتالي يحاول فيه الانطلاق من لغته إلى لغة الكتاب من دون النجاح في الإفلات من الثانية وتحقيق الأولى، لذلك فإنه "يعلق" بينهما خالقاً وسطاً مصطنعاً للفهم، يُدركه القارئ ويفهمه ويقدِّر محاولة المترجم في ضبط ملامح عالمه الوليد.
ويُسمِّي بنعبد العالي هذا "العالم الوليد" بسوء الفهم الأصليِّ، ذاك أن محاولة المترجم فهم الأصل تنتهي بنسبة من الفشل تجعله يتجه إلى ما يقترب من النص لا إلى ما يطابقه، ولا يرى بنعبد العالي ذلك "خطأ" أو "خيانة" بل يراه سوء فهم مُبرر وكامن خلف أيٍّ عملية تفاهُم، إنه "سوء تفاهم الفكر مع نفسه، سوء تفاهم ذاتي"[5]، لذلك، وكما تكون الترجمة فعل تقريب بين اللغات فإنها كذلك فعلُ تفريق بينها، وذلك لتكريسها الاختلاف والبون بين اللغتين والعالمين إثر ذلك، وأمام النصوص التي "لا يُمكن ترجمتها"، فليس المترجم هو من يقف عاجزاً عن مهمَّته، بل اللغة التي تعجز عن مطابقة العالم الأصل، فليس بوسعها سوى أن تُقابل بين ثقافتين محاولةً مدَّ جسرٍ لغوي بينهما، جسرٍ يصل بينهما ولكنه يُثبت الاختلاف ويكرِّسه، ويُثبِتُ كلاً منهما على ضفَّتها بعيدة عن الأخرى.
ويستند بنعبد العالي في فلسفته عن الترجمة إلى منظوره الإنساني، أي المُتجه إلى الإنسان قبل الأصل، بل عوضاً عن الأصل، وهو بذلك ينتصر للمحاولة المنقوصة على الأصل المثالي، بل ينفي المثالية عن الأصل ويجعله في مقام النُسَخ العديدة أو السيمولاكرات الدولوزية، وهو بذلك ينقل المبحث الترجمي من العلاقة بين النص والترجمات إلى العلاقة بين المُترجم ولغته الثالثة الوليدة.
المصادر:
اسم الكتاب: انتعاشة اللغة: كتابات في الترجمة
اسم الكاتب: عبد السلام بنعبد العالي
دار النشر وعام النشر: المتوسط للنشر (2021)
عدد الصفحات: 270