ممدوح عدوان | في ذكرى المبشر بقيامة اللغة
كتاب >>>> مفكرون وكتّاب
"عليه أن يرأف بنا، هذا الموت، بقيت نسمةٌ واحدة لا تعود تكفي لفقد ممدوح عدوان؛ هذا الذي قال لي مرة بعد مرضه الأول بالقلب: ليس لديَّ وقت لكي أموت، أنا مشغول كثيرًا. ها هو يأخذ الوقت كله ويموت". قاسم حداد
هل رحل المشاكس حقًّا؟ أو لربما لأنَّ المخزون الذي يتركه أديب عتيق من جيل المتمرِّدين -كالماغوط وسعد الله ونوس وكثيرين غيرهما من الذين غيروا في الواقع الأدبي والثقافي- يجعلنا لا نُصدِّق خبر رحيله ولو مضى عليه سنوات عديدة؟
ربما لا يُمكننا أن نعدَّ الموتَ حدثًا ينهي حياة عدوان، ذلك الذي يخال الكثيرون أنه وإن مات فسيموت وهو يُقهقه في وجه الموت غير عابئ به، هذا إن لم يُمازح الموتَ ذاته وهو ينقضُّ عليه كالصقر.
إن السرطان الذي انقضَّ على عدوان لم يطرحه أرضًا ولم يتهاوى صاحبُ القامة ذاك؛ بل بقي صامدًا يُمازح أصدقاءه دون هُوادة ودون اكتراث بالألم.
عدوان صاحب الغزارة الفكرية والأدبية؛ لا يمكن أن يكون قد رحل بهذه البساطة؛ فصاحب الفِكر لا يموت، وعدوان صاحب أدب وفِكر وثقافة لا يمكن الحديث عنها كلها؛ إذ سنحتاج إلى مجلدات تفي كلَّ عملٍ أدبيٍّ وفلسفيٍّ ما يليق به من مديح.
ذلك المشاكس.. أكثر الأدباء الذين شاركوا في الندوات الأدبية في معظم الدول العربية وكان أكثر المتميزين فيها من ناحية النقد؛ لا من أجل النقد بل من أجل إيجاد حلٍّ للأخطاء والإشكالات، والوصول إلى أفضل الصور الممكنة، إن كانت عن الثقافة والأدب أو السياسة أو الإعلام أو الفلسفة أو غيرها من المجالات التي كان يبرز فيها اسم ممدوح عدوان دومًا.
ــــــــــــــ
قبل نهاية عام 2004 بأيام؛ رحل رجل يُدعى "ممدوح عدوان"..
قد تبدو مَهمة الحديث عنه اليوم شاقَّة وبلا جدوى. فكيف يستطيع المرء الحديث عن "المُفرط في التشظِّي كـكوكب يتكوّن"؟ ذلك الذي فيه من الطاقات الإبداعية ما يعجز مقال صغير عن وصفه، "كعازف يحتار في في أية آلة موسيقية يتلألأ"، وهو الذي أسرَّ إلى صديق له بعد مرضه الأول بالقلب: "ليس لدي وقت لكي أموت؛ أنا مشغول كثيرًا".
لكنَّ الحياة لم تسعفنا -نحن لا هو- بمزيد من الوقت؛ بل منحتنا تلك الحسرة المكبوتة التي نُردِّدها في كل مرة نتصفَّح عدوان شعرًا أو نثرًا.. لنُردِّد قول رفيق دربه درويش: "كما لو نودي بشاعر أن انهض..أن انهض!
مَن مثله سوف يُمارس -بإجادة وتميُّز وأصالة وعمق ودأب- الشعرَ والرواية والمسرح والمقالة والدراما التلفزيونية والترجمة في آن معًا؟"
رحل عدوان وهو المُستبصر بموته حين قال:
"أموت لكي أفاجئ راحة الموتى
وأحرم قاتلي من متعة التصويب
نحو دريئة القلب
الذي لم يعرف الإذعان
سأحرم ظالمي من جعل عمري
مرتعاً لسهام أحقاد
وأرضاً أجبرت أن تكتم
البركان".
أية طاقة كان يمتلكها ذلك المُفرط في الجمال! ذلك الذي"لم يكن لديه وقت للنحت في اللغة أو للسؤال المجرد في الوجود بمقدار ما كان لديه شغف محموم بالتعبير.. باندفاعاته، وبمفارقاته التي تشدُّه إلى الضحك على أنفِ الخطر، وفي عين سيكلوب الموت المفتوحة المخيفة!
ألم أقل إنني أتصوره في هذه اللحظة واقفًا على رأس قرن كركدنّ السرطان، وهو يلقي قصيدة أو يرتجل نكتة.. ويقطع بين الفينة والفينة، إلقاءه بسعال متقطِّع.. سعالٌ طويلٌ وجميلٌ تقطعه الضحكات، من هنا وإلى آخر أيام التكوين".
م م د وح..
ممدوح..
تتموج حروف الاسم بسحر غريب لتلوح خلفها من جديد نابضًا بالحياة، تجلس أمامنا بخصل شعرك المتموجة تنسدل على صفحة الوجه، بضحكة مقهقهة تلك التي تشبه "زنزلخت ضخمة، مبحوحة الأغصان".
- يا ممدوح.. أية رغبة في الضحك تُثيرها بنا!
"لديَّ معايير شخصية للحكم على الناس الذين يشتغلون في الشؤون العامة، فأنا لا أثق بمن لا يضحك أو لا يُحبُّ الضحك..".
يُشاكس مرضه غير عابئ به، جاعلًا يومه سبعين ساعة، وضاربًا بالمنطق عرض الحائط.
- يا ممدوح متى تكتب؟ متى تجد الوقت للكتابة؟ ومتى تقرأ؟ هل يومك سبعون ساعة؟
"يُعلِّق الكثير من الأصدقاء على الغزارة التي أكتب بها، والكمية التي أنجزها، ويقول لي بعضهم ممازحًا: متى تكتب؟ متى تجد الوقت للكتابة؟ ومتى تقرأ؟ هل يومك سبعون ساعة؟
- يا ممدوح أجدت الكتابة في المسرح والشعر والرواية والمقالة والدراما! يا ممدوح أية روح بُثَّت فيك؟
"أستغرب استغراب الناس من هذا! هناك كُتَّاب لم يكتبوا إلا في فن واحد. ولكن هناك كُتَّاب مارسوا أكثر من فن وبكفاءة عالية. كتبوا المسرح والشعر والرواية ومارسوا العمل الصحفي، وهذا كله قد فعلته، وإني أتحسَّر لعدم قدرتي على الرسم والعزف والموسيقا والتمثيل".
بحثت عن الفريد في الكثير، دون أن تعلم أن الفريد هو أنت، وأنت أمامك بين يديك.. ورحلت.
"لأن الحياة لا تُوهب لتعرف أو تعرض للنقاش؛ بل لتُعاش.. وتُعاش بكاملها، وتُلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز. وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت.. يا ابن الحياة الحرّ.
اقتبسنا لكم من كتابه (مقدمات دفاعًا عن الجنون):
“نحن أمة خالية من المجانين الحقيقيين، وهذا أكبر عيوبنا. كلٌّ منا يريد أن يظهر قويًّا وعاقلًا وحكيمًا ومُتفهمًا. يدخل الجميع حالة من الافتعال والبلادة وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة؛ فيتحول الجميع إلى نسخ متشابهة مُكرَّرة ومُملَّة.
نحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون، وصار علينا أن نكفَّ عن اعتبار الجنون عيبًا واعتبار المجنون عاهة اجتماعية.
في حياتنا شيء يُجنن، وحين لا يجن أحد فهذا يعني أن أحاسيسنا مُتلِّبدة، وأن فجائعنا لا تهزّنا؛ فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب معافى لا يتحمل إهانة.. ودلالة على أن الأصحَّاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يُحسِّون؛ بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون، على غسل الإهانة.
نحن في حاجة إلى الجنون لكشف زيف التعقُّل والجُبن واللامبالاة، فالجميع راضخون ينفعلون بالمقاييس المتاحة.. ويفرحون بالمقاييس المتاحة.. يضحكون بالمقاييس المتاحة.. ويبكون ويغضبون بالمقاييس المتاحة.. لذلك ينهزمون بالمقاييس كلها ولا ينتصرون أبدًا.
بغتة يجنُّ شخص، يخرج عن هذا المألوف الخانق فيفضح حجم إذعاننا وقبولنا وتثلّم أحاسيسنا. يُظهر لنا كم هو عالم مرفوض ومقيت وخانق.. وكم هو عالم لا معقول ولا مقبول. كم هو مفجع ومبكٍ وكم نحن خائفون وخانعون وقابلون.
جنون كهذا شبيه بصرخة الطفل في أسطورة الملك العاري، أمر الملك العاري أن يروه مرتديًا ثيابه فرأوه، وأمر أن يبدوا آراءهم في ثيابه فامتدحوه وأطنبوا، وحين خرج إلى جماهيره فاجأه بالصراخ طفل لم يُدجن بعد (ولكنه عار... عار تمامًا).
لو كان هذا الطفل أكبر قليلًا لاتُّهم بالجنون، ولكن لأن فيه تلك البراءة الواضحة العفوية الصارخة كانت صرخته فاضحة للملك وللحاشية وللمتملقين وللخائفين.
صرخة الطفل مثل جنون الفنان؛ تفضح كم الناس منافقون ومراؤون وخائفون إلى درجة تجاهل حقيقة يومية بسيطة يستطيع الطفل أن يُشير بإصبعه إليها ويُعلن عنها، فهو يرى الحياة على حقيقتها دون رتوش ودون تلوين بالمطامع ودون مكياج بالتبريرات، وفي أعماق كل فنان طفل صادق بهذا المقدار، طفل لا يحتمل ما تعودنا على احتماله، طفل يبكي حين يتألم ويصرخ، حين يجوع ويغضب، حين يُهان، ويجن حين يجبر على أن يحيا حياة الحيوان".
مصادر:
- مقتطفات من كتاب ممدوح عدوان "جنون آخر".
- مما ألقاه الشاعر محمود درويش في أربعين الراحل ممدوح عدوان، نص بعنوان: "كما لو نودي بشاعر أن انهض".
- من مقطع لـِ : محمد علي شمس الدين في تأبين ممدوح عدوان.
- موقع "جهة الشعر".
ممدوح صبري عدوان كاتب مسرحي وشاعر. ولد في قرية قيرون التابعة لمصياف عام 1941.
حمل إجازة في اللغة الإنكليزية من جامعة دمشق 1966، وعمل في الصحافة الأدبية منذ 1964، ودرَّس مادة الكتابة المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق منذ عام 1992.
كُرِّم في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته العاشرة بوصفه واحدًا ممن أغنوا الحركة المسرحية العربية، وكُرِّم أيضًا في دمشق 2003 بوصفه رائدًا من رواد المسرح القومي.
توفي ممدوح عدوان في 19/12/2004 بعد معاناة طويلة مع المرض، تاركًا وراءه 26 مسرحية و22 مجموعة شعرية وروايتين و26 كتابًا مترجمًا و8 كتب متنوعة.
في الشعر
1- الظل الأخضر- 1967- وزارة الثقافة- دمشق.
2- تلويحه الأيدي المتعبة- 1969- اتحاد الكتاب العرب- دمشق.
3- الدماء تدق النوافذ- 1974- وزارة الإعلام- بغداد.
4- أقبل الزمن المستحيل- 1974- الدائرة الثقافية- منظمة التحرير الفلسطينية.
5- يألفونك فانفر- 1977- اتحاد الكتاب العرب- دمشق.
6- أمي تطارد قاتلها- 1977- الدائرة الثقافية.
7- لابد من التفاصيل- 1979- دار الكلمة- بيروت.
8- للخوف كل الزمان- 1980- دار العودة- بيروت.
(وهذه المجموعات الثماني صدرت عام 1981 في مجلدين عن دار العودة).
9- وهذا أنا أيضاً- 1984- اتحاد الكتاب العرب- دمشق.
10- والليل الذي يسكنني- 1987- دار الأهالي- دمشق.
11- أبداً إلى المنافي- 1990- الدائرة الثقافية.
12- لا دروب إلى روما- 1990- دمشق- طبعة خاصة.
13- أغنية البجع \قصيدتان\- الجزائر- 1997.
14- للريح ذاكرة ولي- الآداب- بيروت- 1997.
15- طيران نحو الجنون- الريس- بيروت- 1998.
16- وعليك تتكئ الحياة- 1999.
17- كتابة الموت- دار هيا- دمشق- 2000.
18- مختارات- وكالة الصحافة العربية- القاهرة- 2000.
19- مختارات طفولات مؤجلة- دار العين- والهيئة العامة للثقافة.
20- مختارات- دار الهيئة العامة للكتاب.
21- حياة متناثرة- دار قدمس- 2004.
هذه الأعمال صدرت في مجلدين عن دار المدى في 2004
22 قفزة في الهواء 2014 (من جزأين)
في الرواية
1- الأبتر (رواية)- 1969- الإدارة السياسية (التوجيه المعنوي)- دمشق.
2- أعدائي (رواية)- الريس- بيروت- 2000.
في المسرح
1- المخاض- مسرحية شعرية- مطبعة الجمهورية.
2- محاكمة الرجل الذي لم يحارب.
3- كيف تركت السيف.
4- ليل العبيد.
5- هملت يستيقظ متأخراً.
6- الوحوش لا تغني.
7- حال الدنيا- مونودراما.
8- الخدامة.
9- لو كنت فلسطينياً.
10- اللمبة- مسرحية خاصة بالمعوقين جسدياً.
11- زيارة الملكة.
12- الزبال- مونودراما.
13- القيامة- مونودراما.
14- أكلة لحوم البشر- مونودراما.
15- الميراث.
16- حكايات الملوك.
17- القبض على طريف الحادي.
18- حكي السرايا وحكي القرايا.
19- القناع.
20- سفر برلك.
21- الغول.
22- ريما.
23- الحمّام.
24- الفارسة والشاعر.
25- ثقافة (عادات) مختلفة.
26- الكلاب (مجموعة مسرحيات قصيرة).
الكتابات:
1 – دفاعاً عن الجنون- الطبعة الأولى: 1985.
2 – الزير سالم- 2002.
3 – المتنبي
4 – نحن دون كيشوت- 2002.
5 – تهويد المعرفة- 2002.
6 – حيونة الإنسان- دمشق- 2003.
7 – جنون آخر- دمشق- 2004.
8 – هواجس الشعر- 2007.
الترجمة:
1- الشاعر في المسرح- رونالد بيكوك- نقد مسرحي- وزارة الثقافة- دمشق.
2- الرحلة إلى الشرق- هيرمن هسة- رواية- ابن رشد- بيروت.
3- دميان- هيرمن هسة- رواية- منارات- عمان.
4- سد هارتا- هيرمن هسة- رواية- منارات- عمان.
5- التعذيب عبر العصور- برناديت ج هروود- بحث- الحوار- اللاذقية.
6- تقرير إلى غريكو- نيكولاس كازانتزاكيس- سيرة ذاتية- ابن رشد- بيروت.
7- خيمة المعجزات (زوربا البرازيلي)- جورج أمادو- رواية- دار العودة- بيروت.
8- عودة البحار- جورج أمادو- رواية- العودة- بيروت.
9- حول الإخراج المسرحي- هارولد كليرمان- بحث مسرحي- دار دمشق- دمشق.
10- الكوميديا الإيطالية- بيير لوي دو شاتر- بحث مسرحي- وزارة الثقافة (المعهد)- دمشق- (الترجمة بالاشتراك مع الشاعر علي كنعان).
11- عاصفة- إيميه سيزار- مسرحية- الثقافة- دمشق.
12- الصبر المتحرق (ساعي البريد)- انطونيو سكارمينا- مسرحية- الثقافة- دمشق.
13- المهابهاراتا- بيتر بروك- مسرحية- الثقافة- دمشق.
14- صلاح الدين وعصره- ب.هـ.نيوباي- بحث تاريخي- الجندي- دمشق.
15- الشيخ والوسام- فرديناند أويونو- رواية أفريقية- منارات- عمان.
16- تاريخ الشيطان- ويليام وودز- الجندي- دمشق.
17- الرقص في دمشق \قصص\- نانسي لينديسفيرن- دار المدى- دمشق.
18- تاريخ التمثيل \توبي كول\- هيلين كريش شينوي.
19- الشعر في نهايات القرن (الصوت الآخر)- أوكتافيو باز- المدى- دمشق- 1998.
20- الأوديسة (عودة أوليس)- ديريك والكوت (نوبل 1992)- مسرحية شعرية- المدى- دمشق- 1998.
21- تلفيق تاريخ إسرائيل التوراتية وطمس التاريخ الفلسطيني- كيث وايتلام- دار قدمس- دمشق- 2000.
22- جورج أورويل (سيرة حياة)- تأليف برنارد كريك- المجمع الثقافي.
23- الإلياذة- هوميروس- المجمع الثقافي.
24- جورج أورويل- سيرة حياة.
25- زجاج مكسور– آرثر ميلر– مسرحية- وزارة الثقافة السورية.
26- الأوديسة هوميروس – لم تكتمل
كما أنتجت له مجموعة مسلسلات تلفزيونية (أكثر من عشرين مسلسلاً) بعضها دائرة النار – اختفاء رجل- اللوحة الناقصة- جريمة في الذاكرة وكان آخرها: "الزير سالم" و"المتنبي"