قصبة الجزائر .. عروس المتوسط البيضاء
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
بين القلعة وساحل البحر المتوسط وعلى أرضٍ غير مستوية، تطورت مساكن طابقية في غالبيتها، شكلت فيما بعد المدينة العتيقة للجزائر العاصمة و التي أطلق عليها فيما بعد اسم القَصْبة. تُعْتَبَرُ القَصْيَةُ نموذجاً عريقاً للعمارة والعمران للمدن العربية الأمازيغية، وهي رمزٌ للثّقافة الجزائرية، وموضع إلهامٍ فنيّ، إضافةً إلى أنّها مَقَرٌّ للحِرَفِ المتوارثة. ندعوكم لاكتشاف تراث هذا الحي العريق في العمارة والتاريخ والعمران والموسيقى وفن الطبخ والحرف من خلال هذا الفيديو:
قَصْبَةُ الجّزائر العاصمة، تعرف شعبياً بـ "القصبة" أي القلعة، وهي الحي التاريخي للعاصمة الجزائرية، ويشكل المدينة القديمة المسجلة في التراث العالمي للإنسانية لليونسكو منذ عام 1992 وفقاً للمعيارين الثاني والخامس.
المعيار الثاني: كان للقصبة تأثير هام على العمارة والتخطيط في شمال إفريقيا والأندلس وجنوب الصحراء الكبرى أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر، تظهر هذه التأثيرات عبر طابعها السكني الخاص وعبر كثافة التراكب الطابقي، مما يشكل نموذجاً فريداً للاستيطان البشري تناغم فيه نمط الحياة الموروث والعادات الإسلامية مع أشكال أخرى للتقاليد.
المعيار الخامس: إن القصبة هي مثال بارز للسكن التقليدي الذي يعكس بعمق الثقافة الإسلامية المتوسطية المكونة من تقاليد متعددة. إن البقايا الأثرية للقلعة والجوامع القديمة والقصور العثمانية، بالإضافة إلى النسيج العمراني التقليدي المتميز بروح العيش مع الجماعة، هي شواهد لهذه الثقافة الغنية ونتيجة حتمية لتفاعلها مع الشعوب المتنوعة التي قطنتها.
أسسها الزيريون أو بنو زيري وهم سلالة صنهاجية أمازيغية، وساهمت السلالات الأمازيغية الأخرى التي سيطرت على المغرب الأوسط بإنشائها اللاحق، بلغت ذروة مجدها في العهد العثماني، حيث كانت مقر السلطة السياسية لأيالة الجزائر (وهي دولة امتدت من طرارة بالغرب حتى القالة شرقاً ومن الجزائر شمالاً حتى بسكرة جنوباً بين عامي 1515 و1830) عندما احتلها الفرنسيون عام 1830، أصبحت مهمشة لأنهم نقلوا مراكز السلطة إلى المدينة الجديدة، عند استقلال الجزائر عام 1962 لم تستطع استعادة مركزيتها العمرانية، وظلت مساحة للمدينة المهمشة.
هذه المدينة مهددة بسبب نقص الصيانة والاهتمام، من قبل سكانها والمعنيين، رغم تصنيفها من قبل اليونسكو. و مع ذلك لا يزال عدد من روادها المحليين يسعون جاهدين لإحياء تراثها المادي واللامادي. إن الخصائص المميزة للمدينة التي تعطيها سحرها، هي أرض المدينة المائلة (يتفاوت الارتفاع من أسفلها إلى أعلاها 118م) وكذلك الشوارع المتعرجة التي تصحبنا في داخل العاصمة الغامض والساحر الذي ينتمي لعصرٍ آخر، بالإضافة إلى الهندسة المعمارية الداخلية والخارجية للمنازل، التي تتميز بفناء داخلي مربع الشكل يتوسطه نافورة صغيرة، يلتف حوله كل المسكن. إن الانحدار قاسٍ جداً في القسم العلوي للقصبة، وتتميز معظم الأزقة بوجود أدراج.
يعجب الخبراء بالعمارة التي تقدمها المنازل المتراكبة على أرضية منحدرة جداً، والتي تستند على بعضها البعض منذ قرون. إن الفنانين المحليين والكتّاب والشعراء والموسيقيين والمترجمين المفتونين بسحر عمارتها وجوها الفريد من نوعه لا يزالون يحتفون بها في أعمالهم. القصبة هي قلب المدينة الأصلي الذي أعطى المدينة البربرية الجزائر لقب البيضاء، لكنها في خطر الزوال حالياً.
لا تزال المدينة القديمة تمارس تأثيرها من البحر وحتى من أعالي الشرفات. لكن عندما نتجول في متاهة زقاقها، يبدو لنا الخراب واضحاً ومؤلماً. فحينما ينهار أحد المنازل، تصبح المنازل الملاصقة له عرضة للانهيار أيضاً.
النسيج الاجتماعي العمراني للمدينة: يبدو تخطيط القصبة نموذجاً للمدن العربية الأمازيغية في المغرب العربي، أسهم العثمانيون في عمارتها العسكرية ولاسيما القلعة التي تشرف على المدينة، إن مصطلح القصبة كان يشير إلى تلك القلعة قبل أن يصبح واسع الانتشار. إن نسيجها العمراني المعقد يبدو غامضاً للعديد من الزوار وخاصة الرسامين المستشرقين. تقود الزقاق الضيقة جداً إلى طرق مسدودة أو إلى ممرات مقنطرة. استخدم الحمار منذ العهد العثماني في جمع القمامة. يضاف إلى شبكة الزقاق الكثيفة طرق سالكة، محيطية كشارع إسلي، وأيضاً طرق نافذة كشارع بوزرينة الذي يرجع للفترة الاستعمارية.
تمتلك القصبة تنظيماً للفراغ العمراني يتوافق مع الموقع وبروزه. وحتى اليوم لا يزال هذا التنظيم متجهاً إلى البحر وإمارة البحر التي هي ميناء المدينة التاريخي. وصف المعماري لوكوربوزييه تخطيطها بالمتقن، مبدياً اعجابه بتراكب المنازل الطابقي على المنحدر التي تتميز بإطلالتها جميعاً على البحر. يقسم الفراغ العمراني إلى عدة أقسام تهيمن على الحياة الاجتماعية. فالبعض يعتبر حميمياً كما في شرفات المنازل التي تخصص بشكل أساسي للنساء. الحومة، التي تشير إلى الحي، تعتبر فراغاً نصف خاص. بينما تعدّ مراكز التجارة (الأسواق) والسلطة عامة تماماً. في كل حي هناك جوامع وقبب للأتقياء المحليين مثل مقام سيدي عبد الرحمن.
تقسم القصبة إلى قصبة سفلى والتي أزيل قسم كبير منها لإنشاء ساحة الشهداء وقصبة عليا تشمل القلعة ودار السلطان وقصر الداي. القصبة السفلى هي مكان التبادل التجاري والسلطة للمدينة القديمة. وفيها مراكز القرار التقليدية، كدار حسن باشا الذي أصبح القصر الشتوي لحاكم الجزائر أثناء الاستعمار، وأيضاً قصر الريّس.
هدم الفرنسيون سور المدينة وأبوابها أثناء الاستعمار. لكنها لا تزال في الذاكرة الشعبية. لذلك فإن العادة جرت على الإشارة إلى الجزائر من خلال أسماء أماكن الأبواب القديمة للمدينة كباب الواد، باب جديد وباب عزون. في القصبة نجد الأسواق كسوق حي جامع كتشاوة وجامع اليهود (الكنيس القديم للعاصمة). حافظت بعض الأسواق على خصوصيتها، كسوق شارع باب عزون المختص بالملابس التقليدية. إن السوق الجزائري الذي كان ممنوعاً في بداية الفترة الاستعمارية لا يزال يفرض نفسه كوسيلة التبادل الأكثر شيوعاً، لا سيما عبر التهريب والسوق السوداء.
منذ حقبة أيالة الجزائر شغلت القصبة دوراً ريادياً في الجزائر، مقدمةّ فرصاً للسكان الفقراء وأيضاً لتجار الأرياف. لقد جذبت على سبيل المثال عدداً من القبليين القاطنين منطقة قريبة، وأيضاً بصورة أقل فلاحين من كل الجزائر، بعد استقلال البلد. أدت هذه الهجرة الريفية نحو المدينة إلى اكتظاظ سكاني نسبي في حي القصبة. الذي بقي بوابة الدخول لمدينة الجزائر ومكان عبور ولجوء للمحرومين. إن هروب العائلات الأصلية باتجاه أحياء أخرى لمدينة الجزائر كباب الواد للبحث عن شقق أوروبية الطراز، يؤكد لنا حقيقة أن القصبة في حالة تحول اجتماعي كبير، عبر التجديد المستمر لشرائحها السكانية منذ الاستقلال.
لا تزال القصبة معروفة بحرفها التقليدية التي تشكل مورداً لكثير من العائلات التي تتجمع في الزقاق التجارية، فعلى هذا النحو تجمّع النحاسون في زقاق النحاس. مع التحولات الاجتماعية خلال فترة الاستعمار ثم الاستقلال، عانت الحرف من تدهور كبير. لم يعد الحرفيون يتجمعون في الزقاق التجارية، وفضّل الكثير منهم التخلي عن مهنة لم تعد تضمن لهم دخلاً كافياً في مجتمع عصري. لكن الجمعيات المحلية والسكان وبصورة أقل السلطات تحشد طاقاتها للحفاظ على هذه المهن التراثية.
المصادر:
هنا
هنا