الرّبيعُ في ذاكرةِ الشّعوب، أساطيرٌ وأَعيادٌ واحتفالات
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
وكأي ظاهرة طبيعية كبيرةُ الأثرِ على حياةِ النّاس راحَتِ الشعوبُ منذُ القِدَمْ تروي القِصَص والحكايا حولَ الربيع في أساطيرَ تصُبُّ في فِكرةٍ واحدة ألا وَهي ربطُ الرّبيعِ بعودةِ الحياةِ إلى الأرضِ بعدَ موتِها وكثيراً ما ارتبطَ اسمُ آلهَةِ الخَصبِ وربَّاتِها بهذا الفصلِ الأَخضر.
ولا تزالُ ذاكرةُ البشريةِ الجَمعيةِ تحتفظُ بأساطيرَ عِدَّة عنِ الرّبيع ربما تتشابهُ وربما تختلفُ ولكنها تبقى تعبيراً إنسانياً أصيلاً يحكي طبيعةَ الإنسانِ المُبدعة في تفاعله مع محيطه الذي يعيشُ فيه. وفي ما يلي نقدّمُ لمحةً موجَزَة عن بعضِ أساطيرِ الشّعوب.
الرّبيع في الأُسطورةِ الإغريقية:
كانَ لزيوس كبيرُ الآلهة وزوجتُهُ ديميتر ربّةُ الزّرعِ والحَصاد ابنةٌ تُدعى بيرسفون. وتروي الأسطورةُ أنَّ هاديس إله العالمِ السفلي كانَ قد خطبَ ودَّ الكثيرِ من الإلهات وبناتِ الآلهة ولكنَّهُ قُوبِلَ بالرَّفضِ مِراراً لأنَّهُ يسكُنُ العالَمَ السفلي حيثُ لا يرضى أحدٌ بالسُّكنى هناك سِوى المَوتى. وفي يومٍ من الأيّامِ بينما كانت بيرسفون تقطفُ الأزهارَ مرَ هاديس وأُعجِبَ بجمالِها فقرّرَ خطفَها وهكذا فَعَلَ.
عندما علِمَتْ ديميتر بأمرِ اختطافِ ابنتِها حزِنتْ كثيراً وأهمَلتْ شُؤونَ الزَّرعِ والنّبت، فيبِسَتِ الأشجارُ والزّروع وواجهَ الناسُ الجوعَ والجَفافَ، طلبَ زيوس من هاديس أن يسمحَ لبيرسفون بزيارةِ أمها، فقبِلَ بذلكَ ولكن بعد أنْ أطعمَها سِت حباتٍ من بُذورِ الرُّمانِ وحِيلتَهُ في ذلكَ ضمانُ عودتِها. فمَنْ يأكلُ منَ العالَمِ السفلي لا يستطيعُ مغادَرَتَه حتى لو كانَ من الآلهة. عادت بيرسفون إلى الأرضِ وعادَتْ معَها الحياةُ والخُضرةُ للأشجارِ وَالنبات. وعندما طالبَ هاديس بزوجَتِهِ لأنّها أكلتْ من طعامِ العالَمِ السفلي تجادَلَ مع زِيوس وتوصّلوا لاتفاقٍ بأنْ تقضي بيرسفون شهراً في العالَمِ السفلي عن كل حبة رُمانٍ أكلتها هُناك وتقضي باقي شهورِ السّنة في الأرض إلى جانبِ أمّها. وهكذا أصبحَ خروجُ بيرسفون إعلاناً لبدايةِ الربيع ومن بعدِهِ الصيف ثمَّ تعودُ إلى العالَمِ السفلي ليكونَ الخَريفُ وبعدَهُ الشتاءْ.
Image: https://usercontent1.hubstatic.com/9001105_f520.jpg
الربيع وشعوب الهِلال الخَصيب:
ترتبطُ احتفالات الربيع في بلادِ ما بينَ النهرين بأسطورةِ عِـشتار وتمّوز (إنانا وديموزي في النسخة السومرية). فوِفقاً للأسطورة كانت عشتار ربّةُ الخَصْبِ زوجةً للإلهِ تمّوز، وبعدَ أنْ قامَتْ عِشتار برِحلَتِها إلى عالَمِ الأموات رفضَتْ أختُها إرشكجال سيّدةُ العالَم السفلي عودَتَها إلى الحَياة، ولكنّها وافَقت أخيراً بشرطِ أنْ تأتي عِشتار بأحَدٍ يأخذ مكانَها في عالمِ الأموات. عادت عشتار لترى زوجَها تموز غيرَ مهتمٍ لغيابِها فغَضِبت كثيراً وأرسلَتهُ إلى عالَمِ الأموات بدلاً عنها، فغابت ثُنائيةَ الذّكرِ والأنثى واختفى الخَصبُ والحياةُ مِنَ الأرض.
وفي كلّ سنة في الأكيتو (رأسُ السنةِ البابليّة والآشورية أولَ نيسان) يتضرع ُالكَهَنةُ للآلهةِ من أجلِ عَودةِ تموز، وبعودتِهِ يعودُ الخَصبُ والرّبيع.
ولا تختلف القصة الفينيقية كثيراَ، فيصبحُ تموز هو أدونيس وعِشتار هي عشتاروت التي أحبّتْ أدونيس وفقدَتْهُ عِندما هاجَمَهُ خِنزيرٌ برّيٌ أثناءَ الصيد، فيهوي إلى عالمِ المَوتى حتّى يأتي يومٌ تخرجٌ فيه نساءُ بيبلوس (جبيل) تنوحُ وتبكي وتتضرع، فيعودُ أدونيس ويعودُ معَهُ الربيع. وتتشابهُ الرواية الفينيقية للأسطورة مع أسطورة بيرسفون، إذ يعودُ أدونيس للحياةِ أربعةَ أشهر من السنة حامِلاً معه الخَصبَ والرّبيع.
Image: https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/2/22/British_Museum_Queen_of_the_Night.jpg
الربيع عندَ المِصريين القُدماء:
لا يزالُ المصريين اليومَ يحافظون على تقليدِ الاحتفالِ بعيدِ الربيع أو "شَمِّ النسيم" كما يُطلقونَ عَليه. ويأتي الاحتفالُ بهذا اليومِ في الاثنين الذي يلي عيدَ الفِصح مباشرةً حسَبَ التقويم الشرقي. وتعودُ جذورُ شم النسيم إلى حِقبة المصريين القدماء إذ كانَ يُطلَقُ على هذا اليوم (شامو) وتعني عودَةُ الحياة، وقد حُوِّرَ الاسمُ في الحِقبة القبطية إلى (شَـم) ثُم صارَ لاحقاً شم النسيم في إشارةٍ إلى اعتدالِ الطقسِ والهَواء.
وتتضمنُ تقاليدُ الاحتفالِ بعيدِ شمّ النسيم أكلَ البيضِ المُلونِ والسمكِ المجففِ المملح(الفسيخ) والخضروات التي ترمزُ إلى عودةِ الربيع والحياة. وهي التقاليدُ ذاتها المتبعة منذُ آلافِ السنين.
Image: http://liberallifestyles.com/wp-content/uploads/2013/05/shamel-13.jpg
رأسُ السنةِ الصينية:
من جديد تظهرُ فكرةُ عودةِ الحياة وزوالِ خَطَرِ الفَناء لتُعبرَ عنِ الربيع في اللاّوعي الجَمعي للشعوب، فالصينيونَ يحتفلونَ كلَّ عامٍ برأسِ السنةِ الصينيةِ التي تتزامنُ و بداياتِ الربيع. ومن الأساطيرِ التي تُروى في سببِ الاحتفالِ أنَّهُ كانَ في غابِرِ الأزمانِ وحشٌ مُخيفٌ يُدعَى نيان لَهُ رأسٌ طويلٌ وقرونٌ حادّة يعيشُ في أَعماقِ البحر طوالَ السنةِ ولا يظهرُ إلا في يومٍ واحدٍ من السنة ليلتهمَ الناسَ ومواشِيهم في القُرى المُجاورة فكانَ الناسُ يهربونَ عندَ اقترابِ ذلكَ اليومِ ويختبئونَ في الجِبالِ البَعيدة.
واستمرَّ الأمرُ على هذا النحوِ حتى زارَ القريةِ رجلٌ عجوزٌ قبلَ يومِ ظُهورِ الوَحشِ ولكنهُ رفضَ الهربَ إلى الجبالِ مع القُرويين، ونجحَ في إخافةِ الوحشِ وطردِهِ بإلصاقِ الأوراقِ الحمراءِ على الأبوابِ وحرْقِ خشبِ البامبُو لتُصدِرَ الأصواتِ العالية وإضاءةِ الشموعِ في المنازل.
اندهشَ الفلاحون عند عودتِهِم فالقريةُ لم تُدمَّر والعجوزُ لا يزالُ على قيدِ الحَياة. فأصبحوا يتبعونَ تقاليدَ الرجلِ العجوز كل عام وصارَ هذا اليوم رأسً السنةِ الصينية وأصبحَ الاحتفالُ بهِ تقليداً يُحييهِ الصينيون حتى اليومَ بلصقِ الأوراقِ الحمراء على الأبوابِ وإضاءَةِ الشموع.
Image: http://images.chinahighlights.com/allpicture/2015/02/ecf9b964d38340ccbab1649d_cut_1006x733_264.jpg
نوروز، اليومُ الجَديد:
للشّعوبِ الآريَّةِ من فٌرْسٍ وأكرادٍ وغَيرِهِم احتفالاتهم الخاصة بعيدِ الربيع. وما النيروز إلا احتفالٌ بعودةِ الحياةِ وانتفاءِ الظلام، فحسب الرواية الكُردية فإنَّ الفتى كاوا الحَدّاد عندما قتلَ الضّحّاكَ الظالم أعادَ الحياةَ إلى الأرض ِبعدَ أنْ سادَ الظلامُ فيها طوالَ شهورِ الشّتاء.
أما الرّواية الفارِسية لأصلِ العِيد الذي يُصادف يومَ الاعتدالِ الربيعي ودُخولِ الشمسِ في كوكبةِ بُرجِ الحَمَل فيرويها الفِردوسي في الشهنامة، إذ أنَ ملِكَ الفُرسِ جمشيد بَلَغَ مُلْكَاً عظيماً لمْ يبلغهُ أحدٌ من قبلٌ وأنَّ الجِنَّ حملَتْ عرْشَهُ في هذا اليومِ ففرِحَ فرحاً كبيراً وأُقِرَّ الاحتفالُ بعيدِ النوروز.
Image: http://www.deutsch-werden.de/sites/default/files/newroz-2014-arif.jpg
والخُلاصةُ أنَّ ظاهِرةَ الربيعِ وتَبدُّلِ الفصولِ تركت أثراً وإرثاً ثرياً في ذاكرةِ الشعوب والتراثِ الإنساني عموماً والمُلاحَظُ أنَّ جميعَ الرواياتِ والأساطير تتفِقُ على نُقطةِ عودةِ الحياةِ أوِ البعثِ من المَوت، ما يشكِّلُ دليلاً واضِحاً على وَحدَةِ اللاّوعي الجَماعي الإنساني وإنْ تعدَّدتْ أشكالُ التّعبيرِ عَنه.
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
الفردوسي، الشاهنامة، ملحمة الفرس الكبرى، ترجمة سميرمالطي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1979، ص9-10