التشابك الكمومي يخلق حالة جديدة من المادة
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
• التشابك الكمومي Quantum Entanglement
بدايةً، علينا أن نُوّضح ما هي هذه الوصلة أو الرّابطة التي تم تكوينها بين الذرات، وهذا الأمر سيقودنا للميكانيك الكمومي، والذي تسمح قوانينه بنشوء رابط بين جُسيمين (أو ذرتين) مهما كانت المَسافة بينهما، حتى لو لم يكن هنالك اتصال فيزيائي مباشر بين الجُسيمين أو الذرتين. يسمح هذه الرابط بنقل التأثير الذي يحصل على أحد الجسيمين إلى الجسيم الآخر بشكلٍ مباشر. نقول عن الجسيمين أو الذرتين في هذه الحالة أنهما متشابكين كمومياً لذلك تدعى هذه الحالة بالـ "التشابك Entanglement "، وهو الأثر الذي سماه ألبرت آينشتاين "التأثير الشبحي عن بعد Spooky Action at a Distance".
حسناً، أصبحنا نعرف الآن أنه يُمكن لجُسيمين أن يؤثرا على بعضهما البعض حتى دون وجود رابط فيزيائي مباشر إذا كانا "متشابكين كموميّاً". هل هنالك أمر آخر؟ في الواقع نعم.
• حالات فريدة للمادة Unique States of Matter
المادة كما نعلم تتواجد ضمن حالات، وما نلمسه بشكلٍ مباشر من هذه الحالات هو أبسطها، أي الحالة الصلبة أو السائلة أو الغازية. في المُستويات الذرية، فإن الأمور تكون معقدة قليلاً، فالجُسيمات الصغيرة لا تسلك نفس سلوك الأجسام الكبيرة التي نشاهدها في الحياة اليومية. وكذلك الحالات التي يمكن أن تتواجد بها تختلف عن الحالات التي نألفها ونلاحظها بالعين المُجرّدة. تمتلك الجسيمات الأولية عدة خواص مميزة أحدها خاصية "السبين Spin" أو عزم الدوران الذاتي للجسيمات، وهي كما ذكرنا أحد الخواص الأولية للجسيمات الأولية، مثلها مثل الكتلة أو إشارة الشحنة الكهربائية، وهي لا تعني فعلياً أن الجسم يدور حول نفسه، بل تعني أن الجسيم سيكون له اتجاه ومنحى ما عند وجوده ضمن حقل مغناطيسي وكأنه إبرة مغناطيسية صغيرة جداً.
• التشابك الكمومي: حالة غريبة ينتج عنها حالات أخرى
يُعتبر التّشابك الكمومي أحد نتائج القواعد الاحتمالية الغريبة للميكانيك الكمومي، ويبدو أنه يسمح بنشوء رابط آني بين الجُسيمات، على مسافاتٍ بعيدة جداً، وبشكلٍ يتنافى مع القوانين الفيزيائية التي تحكم عالمنا المرئي (من هنا كانت ملاحظة آينشتاين بأنه تأثير شبحي).
نقول عن مجموعة متشابكة كمومياً من الجسيمات أنها في حالة مفردة للف الذاتي Spin Single عندما تكون مُحصلة مجموع عزوم الدوران الذاتي للجُسيمات المُتشابكة مع بعضها البعض مُساوياً للصفر. ففي حالة جسيمين متشابكين وبما أنه لكل جسيم قيمة معينة لعزم الدوران الذاتي تعبر عن توجهه ضمن حقل مغناطيسي خارجي كما ذكرنا فيمكن أصطلاحاً أن نقول عن أحد الجسيمين أن عزمه الذاتي يتجه نحو "الأعلى" مما يعني بالضرورة أن الجسيم الآخر والمتشابك معه سيمتلك عزم دوراني ذاتي يتجه نحو الأسفل وكما ذكرنا لا ينطبق تشبيه الإبرة المغناطيسية على الجسيمين تماماً ولكنها صورة لتقريب الموضوع لأذهاننا.
ولكن هذه الحالة من المادة لم يتم رصدها من قبل في جمل ذات أبعاد ماكروسكوبية أي جمل يمكن رصدها مباشرة (الذرة مثلا منظومة ميكروسكوبية وليست ماكروسكوبية).
في التّجربة الجديدة، تم تكوين سحابة من ذراتٍ مُبرّدة، لتُشكّل أول حالة مفردة للف الذاتي بأبعاد مَرئية Macroscopic Spin Singlet . تم تنفيذ التجربة باستخدام ذرات الروبيديوم، والتي تمتلك عزم دوران ذاتي ثابت مقداره 1 (تمتلك كل الجُسيمات قيمةً غير متغيرة لعزم الدوران الذاتي، وهي خاصية كمومية تُمثّل بأرقام وليس لها واحدة). لكي يكون المَجموع المُحصّل لعزم الدوران الذاتي مساوياً للصفر كما ذكرنا فإنه يتوجب على اتجاه عزم الدوران الذاتي لكل ذرة أن يكون مُخالفاً للذرة الأخرى. وعندما تتشابك ذرتين ضمن حالة مفردة للف الذاتي فإن عزم الدوران الذاتي المُحصّل لهما سيكون مساوياً للصفر. بمعنى آخر، إذا تم تغيير اتجاه عزم الدوران الذاتي لأحد الذرات، فإن الذرة المُتشابكة معها يجب أن تقوم وبشكلٍ آني وفوري بتغيير اتجاه عزم دورانها الذاتي، بحيث يتم الحفاظ على قيمةٍ كُليّة مساوية للصفر.
في حالة منظومة مكونة من 500 ألف ذرة، فإن عملية شبك هذه الذرات مع بعضها البعض ليست بالأمر سهل على الإطلاق، ومن أجل ذلك، قام الباحثون في البداية بتبريد النظام إلى درجةٍ تبلغ 20 جزء من المليون كلفن (أي 20/1000000 كلفن) فوق الصفر المطلق (-273.15 درجة مئوية)، وهي درجة تجمّد ضرورية للمحافظة على الذرات في حالةٍ ثابتة تقريباً، فأي تصادم بسيط بين الذرات قد يؤدي لتخريب اتجاه عزم الدوران الذاتي لها. بعد ذلك، ومن أجل تحديد مُحصلة مجموع عزم الدوران الذاتي لكافة الذرات، قام الباحثون بإجراء "قياس كموميّ غير هدّام" Nondemolition Quantum Measurement"، ويعني ذلك معرفة حالة النظام الكموميّ بدون أن يتم تغيير حالته. هذا النّمط من القياس ضروري أيضاً، ففي العالم الذي تحكمه قوانين ميكانيك الكم تؤثر عملية القياس على الجملة المقاسة فعمليات القياس الفعّالة للنّظم الكمومية تميل إلى التأثير عليها وتغيير الحالة التي تكون عليها، وبحالة التّجربة هنا، فإن حالة النظام يجب ألا يتم تغييرها.
للقيام بالقياس الكموميّ غير الهدام، قام العُلماء بإرسال نبضةٍ ليزرية من 100 مليون فوتون إلى السحابة الذرية، وقد تم حساب طاقة هذه الفوتونات بشكل دقيق، بحيث لا تؤدي طاقة هذه الفوتونات لإثارة ذرات السحابة، بل بدلاً من ذلك ستمر عبرها دون أن تؤثر بها. ولكن الفوتونات التي عبرت وسط السحابة هي التي ستتأثر، فالعزم المغناطيسي لهذه الذرات سيؤثر على الفوتونات (الضوء هو موجة كهرطيسية) وبقياس تأثر الفوتونات بمرورها ضمن عينة الذرات يستطيع الباحثون أن يُحددوا القيمة الكلية لعزم الدوران الذاتي لذرات السحابة.
على الرّغم من أن عملية القياس السابقة لم تؤثر على عزم الدوران الذاتي لذرات السحابة، إلا أنها قد سببت حدوث تشابك بين العديد من ذرات السحابة. افترض الباحثون أنه عند بدء التّجربة كانت اتجاهاتٍ عزوم الدوران الذاتي للذرات عشوائية، ولكن في بعض الحالات، أظهر القياس أن المَجموع المُحصل الكلي لقيمة عزم الدوران الذاتي مساوٍ للصفر. ولكن عند حصول ذلك كانت قيمة عزم اللف الذاتي الكلي تبقى ثابتة على الصفر في جميع القياسات اللاحقة. و بحسب ما يشرح Naeimeh Behbood من معهد العلوم الضوئية في برشلونة "قامت عملية القياس نفسها - بطريقةٍ ما - بتشكيل الحالة المفردة من اللف الذاتي. لقد تسبب هذا القياس بتشكيل حالة تشابك كمومي انطلاقاً من حالة غير متشابكة كمومياً. كيفة حصول هذا الأمر هي لغزٌ عميق في الميكانيك الكمومي ".
تضمنت التّجربة الكُلية سحابةً من مليون ذرة روبيديوم، إلا أن عملية القياس التي تم إجراؤها غير قادرة على التحديد الدقيق لعدد الذرات التي تشابكت مع بعضها البعض. وبحالة نظام كمومي يتمتع بعزم دوران ذاتي كُلي يساوي الصفر، فإن الحدود الكمومية تضمن أن نصف الذرات المُكوّنة لهذا النظام على الأقل - بحالة التجربة 500 ألف ذرة - قد تشابكت مع بعضها البعض. تم نشر الدراسة بتاريخ 25 آب من عام 2014 في مجلة Physical Review Letters.
يقول الفيزيائي Marco Koschorreck من جامعة بون، وهو أحد المشاركين في الدراسة :" أجد أن هذه النتيجةٌ هامة من أجل الأبحاث الأساسية والتطبيقية". وبما أن عزم الدوران الذاتي للذرات المُتشابكة حساسُ جداً للتأثيرات المغناطيسية، فإنه يمكن استخدام الحالة المفردة للف الذاتي ضمن الأبعاد المرئية Macroscopic Spin Singlet للكشف عن الحقول المغناطيسية.
يأمل الباحثون أن يتمكنوا في المستقبل القريب من فهم الحالة الجديدة التي قاموا بتكوينها. على سبيل المثال، لا يعلم الباحثون حالياً سوى القيمة الكلية لعزم الدوران الذاتي للذرات، دون أن يعلموا بشكلٍ دقيق كم ذرة مُتشابكة تُساهم فعلياً في هذا الأمر. هل هي الذرات المتجاورة مع بعضها البعض، أم الذرات البعيدة عن بعضها البعض، أم أن الأمر عشوائي؟ أسئلة كهذه ستساعد العلماء في فهم كيف ساهمت عملية القياس الكمومي غير الهدّام في حصول التشابك الكمومي، وكيف يُمكن معالجة هذه الظاهرة لتحقيق أهداف تطبيقية وعملية.
وصف آينشتاين التشابك الكمومي بأنه تأثير "شبحي" و "غامض". ولكن يبدو أن هذا الغموض، وهذه "الشبحية" ستقل مع مرور الوقت، بفضل المعارف المتزايدة التي نحصل عليها.
* توضيح: معظم الظواهر الفيزيائية الغامضة، كالتشابك الكمومي، هي عبارة عن حالات تم التوصل لوجودها نظرياً عبر الدراسات الرياضية، أي أن المعادلات الرياضية هي التي قادت لاستنتاج وجود هذه الحالات، وذلك عبر الحلول التي تصل إليها هذه المعادلات. ما يقوم به العلماء ضمن هذه الأبحاث هو تكوين تجارب مخبرية من أجل البحث في صحة هذه الاستنتاجات وفقاً لما تتنبأ به النماذج النظرية. الأمر مشابه تماماً لاكتشاف بوزون هيغز الذي تنبأ به العالم بيتر هيغز رياضياً عام 1965، وتطلب الأمر حتى عام 2012 كي يتم إثبات وجوده ضمن تجارب مصادم الهادرونات الكبير LHC – ]المترجم[
المصدر:
هنا
البحث المنشور:
Generation of Macroscopic Singlet States in a Cold Atomic Ensemble
N. Behbood، F. Martin Ciurana، G. Colangelo، M. Napolitano، Géza Tóth، R. J. Sewell، and M. W. Mitchell Phys. Rev. Lett. 113، 093601
هنا
Bertram/Motion Forge