الرحلة السريالية لرجلٍ لا يملك سوى .. دعوةٍ مفتوحةٍ للرقص
كتاب >>>> روايات ومقالات
لماذا يمكن أن يرغب أيّ شخص في البكاء من أجلي؟؟
سؤالٌ قد يبدو غريباً للوهلة الأولى ولكن طعمه المرّ لا يلبث أن يباغتك بعد عدّة ثوانٍ ويرمي بك في دوامات لا نهائيّة.
في هذه الرواية نرافق صحفيّاً يابانياً عادياً، قد يبدو كأكثر الأشخاص روتينية في هذا العالم، فبين انعدام طموحه وعيشه الطويل كآلة أوتوماتيكية في مجتمع تطغى عليه الرأسمالية المتقدمة وفورة الحواسيب العملاقة، زمن يعتبر فيه الناس المعاملات المالية نوعاً من التصوف، وحيث لا حدود واضحة للخير والشر، يتخبّط بطل هذه الرواية لإيجاد أيّ معنى حقيقي لحياة رتيبة عادية بل وحتى مريحة إلى حدٍّ ما، مدفوعاً برغبته الملحّة للحصول على تفسير مقنع لأحلامه المتطرفة .
هكذا يأخذنا هاروكي موراكامي في هذه الرواية، يمسك يد قارئه العزيز ويجوب به أبعد سراديب النفس البشرية، مستفزّاً كل حواسه وباعثاً الحياة في أكثر المشاهد غرابة، لتشعر بثلوج اليابان تستقر على أهدابك، وترى مايكل جاكسون يغني حول النيران في الصحراء المصرية للفوز بقلب كليوباترا، أو تترك العناء لنبضك الرتيب فيتناغم مع روائع موسيقى روك الستينيات، وربمّا لتمسك بيديك تلك الظلمة الثقيلة متجاوزاً زمانك و مكانك إلى أبعاد أخرى لم تسمع عنها قبلاً فتجري حديثاً حميمياً مع قدرك القابع هناك.
قد تبدو مناقشة هذه الرواية للعلاقات الإنسانية المعقدة غير مألوفة أحياناً ولكنها سوف تمسّك بطريقة جميلة وعذبة وسلسة. سواء بعلاقة البطل مع الفتاة الصغيرة التي ستعيد ترتيب فوضى روحه بعد أن وضعها القدر بطريقة عبثية أمامه، أو ببحثه الدائم عن شبح امرأة ظنّ أنها ستحيي ذكرياته الباهتة، صداقاته المعقدة التي تتأرجح بين أقصى الحدود، زواجه الفاشل، عمله الذي يقوده إلى اللامكان وأكبر اكتشافاته: نحن جميعنا متصلون!
يعيش بطل الرواية (لو كان من الممكن تسميته بطلاً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة) حياته ببرودة قد تبدو مخيفة للبعض، ومملّة للبعض الاخر. خوفه الكامن من إجراء أي تغيير حقيقي في حياته قيّده لفترة طويلة جداً، و على الرغم من أنّ حالته هذه قد تظهر بعيدة للقارئ المحايد، لكنها واقعيّة بشكل ملموس، نصادفها كل يوم عند آلاف النماذج البشرية التي نقابلها ونخشى جميعنا أن نستيقظ يوماً ما ونجد أنفسنا هناك، مع أولئك المصنَّفين عندنا كأشخاص يائسين، كئيبين ومعدومي الأمل، لا يشابهوننا ولا يصلنا بهم أيّ رابط، لكنّه عندما قبل أخيراّ الأدوار المصمّمة له بشكل مثاليّ، فتح على كيانه أبواباً مذهلة، واستطاع أخيراً أن يطلق العنان لآلاف المساحات الضوئية المكبّلة بقيود الرتابة والملل وفقدان الإحساس بقيمة الزمن .
لم يكن هاروكي موراكامي يوماً من الأدباء المخادعين و لا تتوقع منه في هذه الرواية أن يجمّل الحقيقة و يطليها بطبقة رقيقة لمّاعة ليجعلها أكثر قبولاً، سوف تقف أكثر من مرة محبوس الأنفاس وربما خائفاّ لأنك واجهت ما لم تجرؤ يوماً على سماعه من قبل وقد تشعر بتحرّرك من ثقل جسدك هذا لتهيم عبر الخط اللطيف الذي يفصل الكابوس عن الحقيقة.
إذا لم تكن من قرّاء هاروكي موراكامي سابقاً فهذه الرواية قد تشكّل بداية رائعة لرحلة سريالية تستحق أن يتم الخوض بها بكل جوارحك.. من يدري، قد تكون أنت أيضا على موعد مع الرجل المقنّع في غرفة تجاوزت كل الأبعاد المعروفة ليخبرك بأن "ترقص بأقصى ما لديك من قوة، ارقص حتى يظل كل شيء يدور، ارقص ما دامت الموسيقى تعزف".
الكتاب: رقص.. رقص.. رقص (الكتاب الرابع و الأخير من سلسلة الجرذ)
الكاتب :هاروكي موراكامي
الترجمة: أنور الشامي
الناشر: المركز الثقافي العربي 2011