انتحار ثوري أم جريمة؟!
علم النفس >>>> المنوعات وعلم النفس الحديث
في منتصف أدغال غايانا في أميركا الجنوبية، تناول ما يقارب الألف شخص سم السيانيد اتّباعا لتعليمات قائدهم الكاهن "جيم جونز". أعطى الآباء والأمهات الشراب المميت لأطفالهم وشاهدوهم يموتون، ثم تناولوه بأنفسهم، تعالى الصراخ وارتعدت الأجساد، وفي غضون دقائق انتهى يوم 18 من نوفمبر 1978 بـ 912 جثة.
ولد جيم جونز في 13 مايو 1931 لأب من المحاربين القدامى في الحرب العالمية الأولى، كان والده مدمناً على الكحول ويُشك في تورطه مع جماعة "كوكلس كلان" المعادية للسود.
في طفولته، وجد جونز صعوبة في تكوين الصداقات، ويقول أقرباؤه أنه كان طفلاً غريب الأطوار، مهووساً بالدين وطقوس الموت، و يقال أنه أقام جنازات عديدة لحيوانات ميتة وطعن مرة قطة حتى الموت. كما وكان قارئاً شرهاً، فقد درس سيرة ستالين، كارل ماركس، غاندي وهتلر، ملاحظاً نقاط ضعفهم وقوتهم.
تعاطف في شبابه مع مجتمع الأميريكيين السود بسبب تجربته في كونه منبوذ اجتماعياً، وروى بنفسه مرة أنه امتنع عن الحديث مع والده لسنوات بسبب منعه لأحد أصدقائه السود من دخول المنزل.
أسس جونز "معبد الشعب" في العام 1955 ليمنح الأمل لألوف اليائسين... جيم جونز الكاهن المحبوب الذي دافع عن المساواة العرقية والعدالة الاجتماعية.. المشهور بسمعته النزيهة وقدراته الخطابية الفاتنة.. كيف انتهى به الأمر بأن يصبح قاتلاً؟
أنشأ جيم جونز في العام 1973 مستعمرة "جونز تاون" في غايانا - أميركا الجنوبية، وأحضر إليها الكثير من أتباعه من "معبد الشعب". روّج جونز لهذه المستعمرة على أنها "الملاذ" وأنها المكان الذي سيعيش فيه مع أتباعه وعندما يموتون سينتقلون لمكان آخر يعيشون فيه بسعادة. أسمى جونز هذه المستعمرة "مشروع معبد الشعب الزراعي". لمدة خمس سنوات؛ اعتبر ما يقارب 1100 رجلاً وامرأة وطفلاً هذه المستعمرة الزراعية "منزلاً". لكن هذا المنزل لم يكن في الواقع إلا سجناً، فبمجرد وصولهم إلى غايانا؛ فرض جونز عليهم أنظمة صارمة فيما يتعلق بالانعزال وبإمكانية الاتصال بأشخاص لا ينتمون لمعبد الشعب، ولم يسمح لأي من فيها بالمغادرة. جونز نفسه أصبح مهووساً ومتعاطياً للمخدرات.
شكّل أقارب المبعدين في غايانا حملة تدين أفعال جونز وتتهمه بالاعتداء. في نوفمبر 1978 قاد عضو الكونجرس "ليو رايان" مهمة استكشافية إلى جونز تاون برفقة بعض أقارب الموجودين فيها وفريق تصوير وبعض المراسلين الصحفيين. انتهت المهمة بقتل ليو رايان وأربع أشخاص آخرين من الحملة بأوامر من جونز، ولاحقاً في نفس اليوم؛ أخبر جونز الناس في المستعمرة أن الاتحاد السوفييتي -والذي تفاوض معه المعبد لشهور من أجل الهجرة إليه- لن يوافق على مجيئهم بعد علمهم بمقتل عضو الكونغرس والأشخاص الأربعة، وقد جاء هذا العذر متناسقاً مع نظرياته المزعومة حول تآمر المنظمات الاستخباراتية ضد المعبد. أخبر جونز الناس في المستعمرة أن: "رجالاً سيهبطون عليهم بالمظلات.. سيطلقون النار على الأطفال الأبرياء وسيعذبون الصغار والكبار.." وعندما بدأ الناس بالبكاء والصراخ تابع جونز "أوقفوا هذه الهستيريا! علينا أن نموت بكرامة.. لا يجب أن تخافوا من الموت.. لأننا سنرتقي إلى مستوى آخر.. مستوى أفضل.. هذا ليس انتحاراً.. لكنها ثورة على اللاإنسانية.." . وبهذه الادعاءات أقنع الجماعة بأن "الانتحار الثوري" الجماعي هو الحل. يقول أحد الهاربين من هذه المجزرة المريعة أن الشراب أُعطي للأطفال أولاً، وطُلب من الناس أن تستلقي "بسلام" بجوار بعضها. أما جيم جونز فقد وُجد ميتا على كرسي وفي رأسه رصاصة، وقيل أن الرصاصة انطلقت من مسدس موجه ذاتياً.. أي أنه مات منتحراً، لكن ابنه يعتقد أن جونز أمر أحداً ما بإطلاق الرصاص عليه.
يقول فيليب زيمباردو (رئيس سابق لمؤسسة علم النفس الأميركية APA) أن جيم جونز قد استلهم قدرته على الإقناع من المفكّر الاجتماعي جورج أورويل صاحب كتاب "1984".
ويقول زيمباردو كذلك: "في النهاية.. يجب أن تكون جونزتاون بمثابة تحذير لمجتمع علم النفس الاجتماعي بما قد يحدث إذا انتُهكت مبادئ التأثير على الناس من قبل قادة المنظمات".. فقد وُجد أن جونز الذي عمل كقس في معبد الشعب قد درس طريقة أورويل في التحكم بالعقول الموجودة في كتابه (1984) و ألّف أغنية كان يفترض على أتباعه ترديدها في جونزتاون في مطلع عام 1984.
بعض الطرق التي استعملها جونز من كتاب "1984":
- أخوك الأكبر يراقبك:
استخدم جونز هذه الفكرة ليحصل على ولاء أتباعه فقد طلب منهم أن يتجسسوا على بعضهم، كما كان يبث الرسائل من مكبرات الصوت ليكون صوته مسموعاً وحاضراً طوال الوقت.
- التورط الطوعي:
أمر جونز أتباعه بكتابة أوراق عن مخاوفهم و أخطائهم، و هكذا عندما يعصيه أحدهم فإنه يقوم بإهانته أو جعله يواجه أسوأ مخاوفه على الملأ..
في "1984" تنكسر مقاومة البطل عند تغطيته بالفئران، الأمر الذي كان يمثل أعظم مخاوفه.
- التدرب على الانتحار:
يقول بطل الكتاب: "الشيء الصحيح هو أن تقتل نفسك قبل أن يتمكنوا منك" في حالة الحرب، قام جونز بجعل أتباعه يتقبّلون الانتحار حتى قبل حدوث الحادثة الحقيقية.
- تشويه إدراك الناس:
استطاع جونز تشويش العلاقة بين الكلمات و الواقع، فمثلاً: طلب من اتباعه أن يشكروه يومياً على الطعام الجيد والعمل بينما كانوا في الواقع يتضورون جوعاً ويعملون ستة أيام و نصف في الأسبوع.
و بممارسة هذه الأساليب أصبح جونز قادراً على الاستحواذ على طاعة وولاء أتباعه، يقول زيمباردو: "قد يكون جيم جونز أكثر قادة الجماعات جاذبية في العصر الحديث، سواء من حيث جاذبيته الشخصية أو إتقانه فن الخطابة أو اهتمامه الكامل بالتحكم بجميع أفراد مجموعته".
المصادر :
• هنا
• هنا
لا تبخل على الآخرين بالمعلومة ، انشرها واجعل غيرك يستفيد