ديكارت، أبو الحداثة
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> أعلام ومفكرون
إن مكانة ديكارت العلمية و الفلسفية داخل الحضارة الغربية لا تحتاج إلى شرح طويل، فهو أحد أهم علماء الغرب قاطبة، استنبط الهندسة التحليلية، وكان من أوائل واضعي الفيزياء الرياضية، وهو رائد العقلانية الغربية الحديثة، ومكتشف الكوجيتو (مبدأ الشك)، ويقين الذاتية على الصعيد الفلسفي. سنورد في هذا الجزء مقدمة وجيزة عن هذا المفكر الكبير وما قدمه للعلم وللحضارة الإنسانية.
شكل القرن السابع عشر، قرن الاستفاقة. فجاء ديكارت بعد عدة تيارات فكرية عنيفة قامت في أوروبا منذ بداية القرن السادس عشر. وجاءت فلسفته فحولت تلك التيارات تحويلاً جذرياً. فكان عصر النهضة والإحياء والإصلاح والتجديد. فتتميز الحقبة الزمنية التي سبقت ظهور الفلسفة الحديثة، بمظاهر حضارية يمكن ردها إلى ثلاثة عوامل كبرى شهدتها أوروبا وهي:
- عصر النهضة الأوروبي.
- حركة الإصلاح الديني.
- نشأة العلم الحديث التجريبي.
في عصر النهضة الأوروبية، كان يوجد عدد من الفلاسفة. لكن أول فيلسوف عظيم أقام صرحاً فلسفياً متكاملاً حديثاً، هو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت. فشكل فكر ديكارت فاتحة الحداثة حسب شهادة هيغل، وتدبر صرح معرفي قائم على قواعد وثيقة وثابتة.
وديكارت هو من أكثر المفكرين إشكالية، وهذا ليس فقط لما قد أثاره في العصر الذي عاش فيه، بل امتداد ذلك لمن قد جاء بعده وتأثرهم به.
تبرز أهمية ما قد جاء به المفكر الفرنسي الكبير رينيه ديكارت كونه، قد شكل ونادى بالقطيعة المعرفية بينه وبين ما قد ساد في أوروبا من أفكار ومبادئ قد نهج عليها المفكرون والدارسون، فجاء هو ونسف كل المنظومة الفكرية السائدة، والتي كان يسودها الجهل وإقحام الدين في المسائل العلمية بطريقة سلبية، فعمل على إعلاء العقل وتحكيمه. هذا ما سنحاول أن نورده على عدة أجزاء، رغم أن تناول فكر ديكارت وإحصاء كل ما جاء به وأثره لهو بالأمر الصعب.
لقد أستطاع ديكارت بالاعتماد على الاستدلال العقلي أن يكشف قانون الانكسار المعروف، كما استطاع أن يؤسس علماً جديداً هو علم الهندسة التحليلية، وأن يستبدل بدراسة الأشكال الهندسية دراسة التوابع الجبرية. فديكارت قد أرجع علم الهندسة إلى علم الجبر، كما أرجع الفيزياء إلى الهندسة والميكانيك. وإرجاع الهندسة إلى الجبر أدى إلى إظهار وحدة العالم الرياضي، وإلى تصور الكون كله تصوراً رياضياً، وهو في ذلك متفق مع غاليله الذي قال أن كتاب العالم مكتوب بلغة الرياضيات، وأن حروفه مثلثات، ودوائر وأشكال هندسية.
إن هذه النظرية الديكارتية قد عمت العالم الحديث في أيامنا هذه. لأن العلماء يعللون الآن جميع الظواهر الفيزيائية بالحركات على النحو الذي فعله ديكارت، ويميلون إلى تطبيق الرياضيات في دراسة جميع الظواهر، فليس ديكارت إذاً مؤسس الفلسفة الحديثة فحسب، والتي تحاول تقليد الرياضيات في وضوحها ويقينها وتستنتج ماهية الأشياء بواسطة العقل، وإنما هو كما قال بعضهم، أبو الفيزياء الحديثة، فهو هدم فيزياء أرسطو، وألغى العلة الغائبة، ورد الاعتبار للسببية في مواجهة الأفكار الخاصة بالقرون الوسطى حول المعجزات والخوارق الطبيعية غير المبررة علميا.
ولذلك كان معيار الحقيقة في الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الأرسطية على حد سواء هو معيار التطابق أو التماثل بين الفكرة والموضوع. وما قام به ديكارت هو أنه غير هذا التصور للمعرفة وكيفية تحققها رأساً على عقب. فأفرغ العقل والعالم من الصور والقوالب النمطية الجاهزة، وألقى بمبدأ التماثل جانباً، وعوضه بعملية التمثل الذهني. وإذا كانت غاية المعرفة في النظرية الأفلاطونية-الأرسطية هي تحقيق التماثل بين العقل والموضوع، فإن ديكارت انتقل بالمعرفة إلى مستوى أرقى من مستوى الإحاطة بالموضوع. فهو لم يقف عند حدود تماثل الموضوع، بل جعل من التمثلات الذهنية نفسها موضوعاً للتأمل العقلي، وبذلك دفع بالعملية المعرفية إلى مستوى الميتا méta وهو التفكير في التفكير، وقادته تجربته الوجودية إلى اكتشاف بعد جوهري جديد من أبعاد الوجود الإنساني، ألا وهو الوعي، الوعي باعتباره حجر الزاوية في بنية الشخص لدى ديكارت. ويمثل الوعي في نظر ديكارت الصفة المميزة للإنسان.
فديكارت إذن هو مؤسس الفلسفة الحديثة، وموقظ الفكر الأوروبي من سباته. ويعد بحق أستاذ مالبرانش وليبينز واسبينوزا. حتى لقد اعترف الفيلسوف الانكليزي جون لوك نفسه بما لديكارت من فضل عظيم على الفلسفة. فقال:"بعد أن عكف الناس على تعلم الفلسفة وتعليمها، وفقا لمختلف المبادئ طول هذه المئات من السنين، نهض في ركن من أركان العالم شخص غير وجه الأمور، فبين أن جميع الذين سبقوه لم يفهموا من مبادئ الطبيعة شيئا. ونحن يلزمنا أن نقر بأن هذا الفيلسوف الجديد قد منحنا للنظر في الأشياء الطبيعية نورا أعظم من النور الذي منحنا إياه الفلاسفة الآخرون عن بكرة أبيهم".
مصادر وقراءات:
1- ديكارت ،نجيب بلدي ،(القاهرة :دار المعارف ،الطبعة الثانية )،ص 14.
2- فلسفة ديكارت و منهجه دراسة تحليلية و نقدية ،مهدي فضل الله،(بيروت:دار الطليعة،الطبعة الثالثة،1996)،ص61.
3- عبد الجبار منديل الحوار المتمدن،2010، هنا