القوة، بين المفهومِ التقليديّ ورؤيةِ ميشال فوكو
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم الاجتماع
مفهومُ القوةِ التقليديّ:
لعلَّ أحدَ أهمِّ مُساهَماتِ ميشال فوكو في مجالِ الفكرِ والفلسفةِ هو تحليلُه لمفهومِ القوة، والذي خالفَ فيه النظرةَ التي لطالما سادت بشكلٍ راسخٍ في الغرب.
يقدِّمُ فوكو فكرةً عن المعنى التقليديِّ للقوة، خاصَّةً مِن خلال صلتِها بالجنسانيَّة، في كتابه (تاريخُ الجنسانيَّة، المجلدُ الأول) حيث يشيرُ إلى العلاقةِ السلبيةِ بينهما؛ إذْ كانت الآراءُ السائدةُ تؤيِّدُ أنَّ أثرَ القوةِ في مجالِ الجنسانيَّة يتمثَّل في الرفضِ والمنع. فحيثما يتعلقُ الأمرُ بالرغبةِ والمتعة، فإنَّ كلَّ ما تفعلُه القوةُ هو أنْ تمنعَها وتكْبِتَها. وبهذا، فإنّ القوةَ هي مجموعةُ القواعدِ التي تضبِطُ الجنسانيَّةَ وتتحكَّمُ بها، واضِعةً إيَّاها في مجالِ التعارُضِ الثنائيِّ الضيّق: مشروعٌ أمْ محرم، مسموحٌ أمْ مرفوض. أيْ إنَّ هدفَ القوةِ الوحيدَ هو أنْ تُنكِرَ الجنسانيَّةُ ذاتَها. وأداتُها في تطبيقِ غايتِها هذه هي التهديدُ بعقابٍ ليس سوى حرمانِ الأفرادِ مِن عيشِ جانبِهم الجنسيّ.
كما تلجأُ القوةُ حسْبَ الإدراكِ السائدِ إلى وسائلَ أخرى في تحقيقِ مبتغاها؛ كاتِّباع سياسةِ الرَّقابة، والتي بدورِها تأخذُ ثلاثةَ أطوار:
• التأكيدَ على أنَّ ممارسةَ الحياةِ الجنسيةِ غيرُ مسموحة.
• منعَ التكلمِ عنها.
• إنكارَ وجودِها؛ فما كان غيرَ موجودٍ لا يحقُّ له أنْ يُعبِّرَ عن نفسِه.
ينتقدُ فوكو -أثناءَ تحليلِه- النظرةَ التقليديَّةَ للقوة، ويصفُها بأنها ضعيفةٌ في المصادرِ التي تستندُ إليها والطرائقِ التي تسلُكُها، بالإضافة إلى أنها تتَّبِعُ آليَّاتٍ متكررةً وغيرَ قابلةٍ للتجديد. كما أنّ هذه القوةَ غيرُ قادرةٍ على الإنتاج، بلْ تتجسَّدُ دومًا بوضعِ حواجزَ وعوائق.
وباعتمادِ القوةِ بشكلٍ أساسيٍّ على نظامِ القانونِ والحظر؛ فإنها تجدُ نفسَها أمامَ المُفارقةِ التي تقول: ليس باستطاعةِ القوّةِ -في هذا الصدد- أنْ تقومَ بأيِّ شيء، سوى أن تُعيقَ الأفرادَ الذين تُطْلَقُ عليهم صفةُ العجزِ عن فعلِ أيِّ شيء، باستثناءِ ما تُبيحُه لهم تلك القوة. مما يعني أنَّ فاعليَّةَ القوةِ تتمثّلُ في عجزِها عن القيامِ بأيِّ شيءٍ سوى تطبيقِ عجزِها على الأفراد. يتوقفُ النجاحُ في تطبيقِ هذه القوةِ على قدرتِها على إخفاءِ آليَّاتِ عملِها؛ فإنَّ الأفرادَ لن يتمكنوا مِن الخضوعِ للقوةِ إنْ لمْ يَتَرَاءَ لهم أنَّ جزءًا بسيطًا مِن حريتِهم لا يزالُ مِلْكًا لهم.
مفهومُ القوةِ لدى فوكو:
مِن ناحيةٍ أخرى، جاء فوكو بشرحِه الخاصِّ للقوة، الذي عكسَ فيه المبادئَ المعروفةَ السابقة، فقال:
1- إنَّ القوةَ ليست شيئًا يمكنُ السيطرةُ أو الاستيلاءُ عليه، كما أنها ليست أمرًا يمكن قَوْلَبَتُه والاحتفاظُ به حصريًّا؛ بلْ إنها تُطبَّقُ مِن نقاطٍ كثيرةٍ وغيرِ متساوية.
2- إنَّ علاقاتِ القوةِ لا توجدُ بشكلٍ خارجيٍّ منفصلٍ عن باقي أنواعِ العلاقات (كعلاقاتِ المعرفةِ، والعلاقاتِ الاقتصاديةِ، والعلاقاتِ الجنسية...)، بل إنها جزءٌ لا يتجزأُ مِن هذه العلاقاتِ الأخرى. كما أنّ دورَها لا ينحصرُ في نطاقِ القمْع؛ إذْ إنَّ علاقاتِ القوةِ تتَّسمُ بقدرتِها على أنْ تكونَ مُنتِجَةً وخلَّاقة.
3- لا يمكنُ أنْ نحصُرَ علاقاتِ القوةِ بشكلٍ كاملٍ وحتميٍّ في نطاقِ التناقضِ الثنائيِّ بين الحاكمِ والمحكوم؛ فإنَّ القوّةَ ليست مفهومًا ثابتًا، بل هي دائمةُ التجدُّدِ والتغيُّر.
4- توجدُ المقاومةُ حيثما توجدُ القوّة. لعلَّ هذا المبدأَ مِن أبرزِ أفكارِ فوكو حولَ القوة، وأكثرِها اقتباسًا. كأيٍّ مِن علاقاتِ القوة، فإنَّ المقاومةَ لا توجدُ بشكلٍ مستقلٍّ عن غيرِها مِن العلاقات، بل تعدُّ جزءًا منها. ومِن سماتِ المقاومةِ في علاقات القوة: أنَّها تتوزعُ على شكلِ نقاطٍ كثيرةٍ تتخلَّلُ شبكاتِ القوة. إذنْ فليس هنالك مركزٌ وحيدٌ للثورةِ والرفض، بلْ إنَّ هنالك تعدُّدِيَّةً مِن المقاومات: ضرورية، وممكنة، وفردية، وعفْوية...
يرى فوكو أنَّ أحدَ الأسبابِ التي تجعلُنا نشعرُ بالرِّضا تجاهَ تفسيرِ العلاقةِ بين القوَّةِ والجنسانيَّة مِن منظورِ الكَبْت، يُمكن أن يُدعى: (مصلحةَ المتكلِّم). فإذا كانت الجنسانيَّةُ محكومةً بالمنعِ والتّكتُّمِ حقًّا؛ فإنَّ مجردَ التّكلُّمِ عنها سيُعَدُّ تجاوزًا مقصودًا؛ فالشخصُ الذي يقومُ بتناولِ موضوعٍ محظور؛ يضعُ نفسَه بعيدًا عن قبضةِ القوّة؛ وبذلك فإنَّه يتحدّى القوانينَ الموضوعة، ويتنبَّأُ بحرِّيَّةٍ قادمة.
* الصورة هي عمل للفنان الكوبي راؤول ليون ألفاريز بعنوان listos para partir أو "مستعد للذهاب".
المصدر:
Foucault، Michel. The History of Sexuality، Volume I: An Introduction. Trans. Robert Hurley. New York: Random House، 1978. Print