تفسير الناقلية الفائقة عند درجات حرارة غير مسبوقة
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
كان أول من لاحظ هذا السلوك هو العالم الهولندي هايكه كامرلينغ أونِس Heike Kammerlingh Onnes في عام 1911 عندما برَّد الزئبق إلى ما دون 4.1 درجة كلفن. ثم وضع كلٌ من جون باردين John Bardeen وليون كووبر Leon Cooper وروبرت شريفر Robert Schrieffer نموذجًا لتوصيف الناقلية الفائقة، وعُرفت نظريتهم باسم BCS Theory.
تتحول المواد إلى ناقلات فائقة لدى تبريدها إلى ما دون درجة حرارة معينة تُعرف باسم درجة حرارة الانتقال Transition Temperature ،أو كما تُسميها بعض المراجع، درجة الحرارة الحرجة Critical Temperature ويُرمز لها في الحالتين بالرمز (TC)، وعادةً ما تكون قريبةً من الصفر المطلق. وتُسمى الموصلات الفائقة التي تتبع توصيف نظرية BCS بالناقلات الفائقة من النمط الأول Type I.
تصف نظرية BCS للناقلية الفائقة الناقلات الفائقة بشكلٍ جيد عند درجات الحرارة المنخفضة، ووفقًا لهذه النظرية تُسبب التآثرات (التفاعلات المتبادلة) مع اهتزازات الشبكة، التي تسمى فونونات، تكوينَ أزواجٍ مع الإلكترونات فتتشكل "أزواج كوبر" Cooper pairs التي يمكنها الانتقال ضمن المادة دون أن تواجه أيةَ إعاقةٍ، لأن أزواج الإلكترونات تسلك سلوك البوزونات، فلا تخضع لمبدأ الاستبعاد الذي وضعه باولي Pauli، وعليه يمكنها أن تتجمع بأي عددٍ ضمن السوية الطاقية نفسها. تتوقف مثل هذه المواد عن كونها فائقة الناقلية عند تجاوزها درجة الحرارة الحرجة.
لكن في العام 1986 اكتشف جورج بِدنورز Georg Bednorz وألكس موللر Alex Muller أن بعض المواد المندرجة ضمن طائفة الخزف (السيراميك) هي من المواد التي يمكنها أن تكون ناقلاتٍ فائقةٍ وعند درجاتِ حرارةٍ أعلى من هذا بكثير. فقد بلغت درجة الحرارة الحرجة لها 30 درجة كلفن (حوالي – 243 درجة مئوية) ، وكانت هذه الدرجة أعلى بكثير من درجات الحرارة الحرجة التي كانت معروفة في ذلك الوقت للناقلات الفائقة من النمط الأول. ومن اللافت للنظر أن هذه المواد عادةً ما تكون عازلة، ناهيك عن أن تكون ناقلات فائقة.
ومن يومها أصبح هناك نوعان من الناقلات الفائقة: نوع منخفض درجة الحرارة، وآخر مرتفع درجة الحرارة. وتختلف العمليات الفيزيائية التي تسمح بتحوُّل الناقل إلى ناقلٍ فائقٍ في كلِّ نوعٍ من هذين النوعين.
طوَّر العلماء الناقلات الفائقة من النوعين، وعملوا على بناء ناقلات تكون فائقة الناقلية في درجات حرارة أعلى وأعلى، حتى وصلت أعلى درجة حرارة حرجة تم تحقيقها حتى الآن إلى 39 درجة كلفن في الناقلات من النوع الأول. في حين تجاوزت أعلى درجة حرارة حرجة في فئة الناقلات الخزفية عتبة 133 درجة كلفن*.
وتُشير دراساتٌ حديثة إلى أنه يمكن للناقلية الفائقة أن تحدث عند درجات حرارة أعلى بكثير مما كان متوقعًا بحسب ما خلُص إليه فريقٌ دولي من الفيزيائيين يرأسه ماتيو كالاندرا Matteo Calandra من معهد IMPMC في باريس. فقد وضع الباحثون نموذجًا نظريًا للناقلية الفائقة عند درجة حرارةٍ عاليةٍ في كبريتيد الهيدروجين hydrogen sulphide التي تم التوصل لها في العام الماضي، والتي يعزوها الفريق إلى التأثرات البسيطة نسبيًا المشابهة لتلك التي تحصل في الناقلات الفائقة منخفضة درجة الحرارة. وتختلف عن تلك التي تحصل في الناقلات الفائقة عند درجاتِ حرارةٍ عاليةٍ، التي تكون فيها الناقلية الفائقة ناتجةً عن عملياتٍ أكثر تعقيدًا لم نفهمها بعد بشكل كامل.
فعلى الرغم من إجراء العديد من الأبحاث حول الناقلات الفائقة عالية درجة الحرارة منذ اكتشافها عام 1986 فإن الأسس الفيزيائية لها ما تزال غير معروفة. وبدا أن هذا اللغز آخذٌ بالاتساع السنة الماضية عندما وجد مجموعة من الباحثين في معهد ماكس بلانك للكيمياء في ماينز Mainz أن كبريتيد الهيدروجين لدى تعريضه لضغطٍ عالٍ جدًا (200 جيغا باسكال) سيكون له درجة حرارة انتقالية تصل إلى 190 درجة كلفن. وعلى الرغم من أن درجة الحرارة الانتقالية للناقلات الفائقة عالية درجة الحرارة يمكن أن تزداد عند تطبيق الضغط (أعلى قيمة مسجلة حاليًا هي 164 درجة كلفن) فإن كبريتيد الهيدروجين يبدو أنه سيغدو حامل اللقب الجديد في حال تم تأكيد هذه القياسات.
الغريب في أمر كبريتيد الهيدروجين أنه وعلى خلاف الناقلات عالية درجة الحرارة، لا يكون في حالةٍ مغناطيسية، ولهذا فإنه أكثر شبهًا بالناقل التقليدي. قادت هذه المراقبات كالاندرا Calandra وزملاءه في كندا والصين وفرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة إلى استخدام نظرية BCS نقطةَ انطلاقٍ في حساباتهم.
مفتاح فهم الناقلية الفائقة في كبريتيد الهيدروجين هو التآثرات بين الإلكترونات وذرات الهيدروجين. فلذرات الهيدروجين كتلةٌ صغيرةٌ جدًا، ولهذا فإنها تميل للاهتزاز بترددات عالية. وتتآثر أنماط الترددات العالية هذه بشدَّة مع الإلكترونات، الأمر الذي ينجم عنه موصلٌ فائقٌ له درجة حرارة انتقالية TC عاليةٌ جدًا. وفي الواقع وعندما استخدم كالاندرا وزملاؤه نظرية BCS لحساب درجة الحرارة الانتقالية TC لكبريتيد الهيدروجين الخاضع لضغطٍ عالٍ، حصلوا على قيمة قريبة من 250 درجة كلفن، وهي أعلى من الدرجة الملحوظة التي بلغت 190 درجة كلفن.
يعتقد الفريق بأن درجة الحرارة الانتقالية TC أقل نوعًا ما مما تم حسابه، لأن نظرية BCS تفترض بأن ذرات المادة تهتز كهزازاتٍ توافقيةٍ بسيطة (الهزازات التوافقية كالنوابض المرنة في حالة الاهتزازات الصغيرة). غير أن الذرات الخفيفة تخضع لاهتزازات غير توافقية معقدة، ويمكن لهذه الاهتزازات أن تُضعف بشكلٍ كبيرٍ التآثرات التي ينجم عنها أزواج كوبر. وبعد أخذ التأثيرات غير التوافقية بعين الاعتبار في حساباتهم تمكن كالاندرا وزملاؤه من حساب درجة حرارة حرجة TC أكثر واقعية، بلغت 194 وهي تتوافق مع قياسات إرميت Eremet.
- رفع الضغط:
كذلك تُفيد الحسابات بأن التفاعل بين التأثيرات غير التوافقية وبقية خصائص المادة سيجعل درجة الحرارة الحرجة TC تبقى ثابتةً ضمن مجالِ ضغطٍ يتراوح ما بين 200 و 250 جيغا باسكال. وعلى الرغم من أن رصد مثل هذا الأثر في المختبر سيكون اختبارًا جيدًا لصحة الحسابات، إلا أن كالاندرا يقول بأنه ليس لديه أدنى فكرة عن القياسات المأخوذة عند تطبيق ضغط أعلى من 200 جيغا باسكال. وأشار إلى أن تجربة 200 جيغا باسكال كانت صعبةً الإجراء للغاية، ومن المحتمل أن يكون إرميت وزملاؤه هم الباحثون الوحيدون القادرون على دراسة كبريتيد الهيدروجين عند ضغوط مرتفعة مثل هذه.
يشير كالاندرا بأن أعماله النظرية واكتشافات إرميت التجريبية تُمهد الطريقَ أمام السعي للحصول على مواد فائقة الناقليّة عند درجات حرارة حرجة عالية. ولعله من الممكن إيجاد مواد يمكنها أن تكون نواقل فائقة عند درجات حرارة من رتبة درجة الحرارة الحرجة لكبريتيد الهيدروجين أو حتى أعلى.
تسود الحماسة بين العلماء بهذه النتائج، ذلك أنها تسمح لنا بالقول بأنه لدينا ناقل إلكترون-فونون فائق يعمل عند درجة الحرارة 190 كلفن. ويشيرون إلى أن نظرية الناقلية الفائقة بحد ذاتها لا تفرض قيودًا على درجة الحرارة الحرجة TC ويجمعون على أن درجة الحرارة الحرجة لنواقل إلكترون-فونون الفائقة ستكون منخفضة. ومن الواضح أنه ما تزال لدى الناقلية الفائقة التقليدية إمكانياتٌ أخرى لاستكشافها.
* درجة الحرارة المئوية (سيليسيوس) = درجة الحرارة المطلقة (كلفن) – 273.15
المصادر:
هنا
[981238913X] Superconductivity - V L Ginzburg، E A Andryushin