هل هُنالِكَ اختلافٌ حقيقيٌّ بين دماغ الشخص الانطوائي و الانبساطي؟
الطب >>>> علوم عصبية وطب نفسي
كَثُر الحديث في الآونة الأخيرةِ عن الأشخاص الانطوائيين والانبساطيين (المنفتحين) والاختلافاتِ التي قد نجدُها بينهم، وربما يكونُ من السَّهل تمييزُ الأشخاصِ الذين نتحدثُ معهم ومعرفةُ ما إذا كانوا من النمط الانطوائي أو الانبساطي. ولكن، هل هناك طريقةٌ تساعدُنا على فهم ما يحدث فعلاً في أذهان هؤلاء الأشخاص ويجعلُ منهم ما هُم عليه؟
قد لا نجد اختلافاً فعلياً بين أدمغتِهم عندما ننظرُ إلى الأمر وفقَ منظورٍ شاملٍ، فليسَ الانطوائيون أكثرَ ذكاءً من الانبساطيين والعكسُ صحيحٌ أيضاً. ولكنْ أظهرت الأبحاثُ المُنجزة على مدى عقودٍ بأنَّه يتم تنشيط أدمغةِ الانطوائيين والانبساطيين بصورةٍ مختلفةٍ اعتماداً على ظروفهم، كما أنَّ لذلك علاقةً وثيقةً بالدُّوبامين، وهو ناقلٌ عصبيٌّ مسؤولٌ عن ضبطِ مراكزِ المكافأةِ والمُتعةِ في الدِّماغ.
إذا ما أردْنا المقارنة، سنعتبر بشكلٍ بديهيٍّ أنّ الانطوائيينَ أكثرُ هدوءاً وميلاً للعمل وإمضاءِ الوقت بمعزلٍ عن الناس، بينما سنرى الانبساطيين أو المنفتحين يتمتعون بحماسٍ ونشاطٍ وطاقةٍ أكبر، ولهم قدرةٌ هائلةٌ على التأثير في محيطهم.
ولكنَّ الأمرَ ليس بهذه البساطةِ دوماً، فجميعنا يملكُ صفاتٍ عديدةً تنتمي إلى إحدى أو كلتا الشخصيتينِ المذكورتين. وتُظهِرُ هذه الصفاتُ اعتماداً على الوقائعِ والظروفِ المحيطةِ بنا. فإذا قضيتَ وقتاً ممتعاً بالاحتفال خارجاً يومَ عُطلَتِك، فقد ترغبُ في قضاءِ الليلةِ التاليةِ منفرداً تقرأ كتاباً أو تشاهدُ برامجَ التلفاز. وإنْ وجدتَ زملاءك في العمل مُنصرفين عنك رُغم كونك مستمتعاً بالتعامل بانبساطيَّةٍ، فقد تفضل البقاءَ وحدك لفترةٍ معينةٍ بعدها. وأنْ تكون انطوائياً لا يعني أبداً أنْ تكون منعزلاً بالضرورة، فكثيرٌ من الانطوائيين يملكونَ شخصياتٍ تسحرُ من حولَهم ودون الحاجةِ للانفتاح عليهم.
العلمُ وراءَ ذلك:
افترضَ أخصائي علم النَّفس (Hans Eysenck) في عام 1960 أنّ أدمغةَ الانبساطيين تملك قدرةً أقلَّ على الاستثارة أو التهيجِ مما يجعلهم بحاجةٍ لمزيدٍ من التحفيز من المُجتمع لِيشعروا بالتأهبِ واليقظة، بينما يكون تحفيزُ الانطوائيين أكثرَ سهولة. وقد ساعد هذا الأمرُ على تفسيرِ إقدامِ الانبساطيين على المجازفة وخوض التحدِّيات والانغماس القوي بالعلاقات الاجتماعية لتحفيزهم باستمرارٍ، بينما كثيراً ما كانَ الانطوائيون يلتمسون وقتاً للبقاء بمفردهم لخفضِ درجة تحفيزهم، وأفضلُ مكانٍ لذلك هو المنزِل أو زوايا المكتبةِ أو الحدائقِ الهادئة.
وقد مهدتْ هذه الفكرة الطريقَ للعلماء للتعمُّق قليلاً في عقولنا لمعرفة سببِ اختلاف هاتين الشخصيتين. وقد خَلُصَ الباحثون في دراسةٍ عام 2005 إلى أنَّ كلَّ ذلك قد يكونُ مرتبطاً بالدُّوبامين، فقد استجابَ مركزُ المكافأة في الدماغ لدى الانبساطيين بشكلٍ مختلفٍ عن الانطوائيين.
فيما بعد، اكتشفَ أحدُ الباحثين بفضلِ دراسةٍ أجراها في عام 2012 زيادةً في حجمِ وثخانةِ المادة الرمادية في القشرة قبل الجبهيَّة (prefrontal cortex) في دماغِ الانطوائيين – وهي منطقةٌ من الدماغ ترتبطُ بالفِكرِ المُجرَّد وصُنعِ القرار – في حين كانت المادة الرمادية أقلَّ في المنطقة ذاتها من دماغِ الانبساطيين. وخَلُصَ الباحث إلى أنَّ هذا الأمر قد يكون مسؤولاً عن ميلِ الانطوائيين للجلوسِ في الزوايا وتأمُّل الأمورِ جيداً قبلَ اتخاذِ أيِّ قرار، وقدرة الانبساطيين على الإقدامِ على المجازفاتِ دونَ التفكيرِ بإيجابياتها وسلبياتها.
يعتبرُ الدماغ الجزءَ الأكثرَ تعقيداً من جسمِك، ويتطلَّب إجراءَ مزيدٍ من البحث حول أسبابِ تكوُّن الشخصيَّة وكيفية تحديدها. لكن رُبَّما من الأفضل وبدلاً من اختيارِ إحدى الشخصيتين، أنْ نتخذ أفضلَ الصفات فيهما معاً. كما أوضح أحدُ عُلماءِ النفس الذي غالباً ما كان مرضاه تائهون ما بينَ الانبساطية والانطوائية، بقوله "إنَّهم إما أنْ يكونوا انبساطيين أو انطوائيين". وكتَبَ أيضاً "إمَّا أنْ تُفضِّل الوجودَ في خضمِ الحُشود، أو أنْ تجلسَ وتشاهدَ الرَّكبَ يسير."
المصدر:
هنا
حقوق الصورة محفوظة لمبادرة "الباحثون السوريون"
(المصمم: كنان المصري)