زيارة إلى متحف اللوفر - لوحةُ ليبرتي تقودُ الشعب
الفنون البصرية >>>> زيارة إلى متحف الفن
الحماسِ العاطفيِّ الذي رَسمَ به لوحةَ – مذبحةُ كايوس – المستوحاةَ من حربِ الاستقلالِ اليونانية.
لطالما اشتعلت مخيلةُ ديلاكروا لإبداعِ اللوحاتِ بالكثيرِ من الأمور منها: العالمُ الطبيعي، أو سردابٌ قوطيٌ مضلعُ الشكل، أو قطةٌ، أو رحلةٌ، أو شغفُ إنسانٍ، أو حدثٌ غيّر مجرى التاريخِ وعكَسَ الاتجاهاتِ الفنيةَ السائدةَ فترجمَ مشاعرَه العميقةَ القويةَ من خلالِ رسمِها، مُجدِداً أسلوبَه باستمرار. ويُفسّرُ طبعُه العاطفيُّ مدى قوةِ تجسيدِه لانفجارِ الغضبِ في شوارعِ باريس في الفتراتِ الأخيرة.
وكما هي عادةُ ديلاكروا وضعَ خطةً للرسمِ باستعمالِ رسوماتٍ أوليةٍ بسيطةٍ لكلِّ عنصرٍ في اللوحةِ وفي كلِّ مرحلة. كما كان يرسمُ من مجموعةٍ من الأفكارِ التي يجمعُها بشكلٍ يومي منذ ابتدأ مهنتَه في الرسم. لذلك انتهى ديلاكروا من لوحتِه خلالَ ثلاثِ شهورٍ مركزاً على التأثيرِ الدراميِّ والبصريِّ للمشهدِ حيث يقتحمُ الحشدُ المتاريسَ لينقضَّ لآخرِ مرةٍ على معسكرِ العدو.
مثّل ديلاكروا بهجةَ النصرِ وحماسِه عبر تركيبٍ هرميٍ في اللوحة، حيث تنتثرُ الجثثُ في القاعدةِ وتشكّلُ أساساً يدعمُ صورةَ المنتصرين، وتساعدُ في تحقيقِ التوازنِ بين ضرباتِ الفرشاةِ القويةِ والإيقاعِ العنيفِ للمشهدِ ككلّ.
ثورةٌ باريسيةٌ:
جسّد ديلاكروا الحريةَ في لوحتِه بامرأةٍ شابةٍ تضعُ على رأسِها قبعةً افرنجيةً تهربُ منها خصلاتٌ من شعرِها المجعّدِ إلى عنقِها. نابضةً بالحياةِ ومتمردةً ومنتصرةً مثلّت ليبرتي (أو الحرية) ثورةَ عام 1789، وطبقةَ الجمهوريين الفقراء، والسلطةَ الشعبية. بيدِها اليمنى المرفوعةِ عالياً تحملُ العلمَ الأحمرَ والأبيضَ والأزرقَ رمزاً للصراعِ ينبسطُ نحوَ الضوءِ مثلَ شعلةِ لهبٍ. ترتدي ليبرتي فستاناً أصفرَ اللونِ ذا تموجاتٍ كلاسيكية، مثبتٌ عند خصرِها بحزامٍ يتطايرُ طرفُه إلى جانبِها، وقد انزلقَ الفستانُ تحتَ صدرِها كاشفاً شعراً تحتَ إبطها، وهو الأمر الذي اعتبرَه الفنانون الكلاسيكيون سوقياً، إذ قالوا أنّ بشرةَ الآلهةِ يفترضُ أن تكونَ ناعمةً وصافية.
مظهرُ ليبرتي اليوناني وأنفُها المستقيمُ وفمُها الممتلئُ وذقنُها الدقيقُ ونظرتُها الهادئةُ التي تخفي غضبَها، كلُّها أمورٌ تذكّر الناظرَ إلى هذه المرأةِ المرسومةِ في لوحةِ -نساءٌ من الجزائر في شقتهن- تقفُ ليبرتي نبيلةً وحازمة، جسدُها مُنارٌ من الجهةِ اليمنى مميزاً إياها عن الرجالِ وراءها الذين تلتفت إليهم لتحثّهم على تحقيقِ النصرِ الأخير. ويظهرُ جانبَها الأيسرَ المعتمَ خارجاً من سحابةِ دخانٍ، وقدمُها اليسرى الحافيةُ الظاهرةُ تحتَ فستانِها تحملُ معظمَ وزنِ جسمِها. قد تكونُ ليبرتي مجردَ رمزٍ إلا أنها تبدو في معركةٍ حقيقيةٍ وقد التُقطت صورتُها في خضمِّ اللحظة. وتضفي عليها بندقيةُ الجنودِ المشاةِ في يدِها مظهراً عصرياً ومصداقيةً مؤكدة.
وبشكلٍ عفويٍّ ينضّم فَتيانِ باريسيّانِ للقتالِ: أحدُهما يبدو على الجهةِ اليسرى متشبثاً بحجارةِ الرصيفِ بعينين واسعتين تحتَ قبعةِ الجنودِ المشاةِ الخفيفةِ التي يضعُها على رأسِه، أما الفتى الأكثرُ شهرةً إلى اليمين فهو -غافروتش- رمزُ ثورةِ الشبابِ ضدَّ الظلم، ورمزُ التضحيةِ في سبيلِ قضيةٍ نبيلة. يضع غافروتش قبعةَ بيريه سوداء مخمليةً كالتي يضعها الطلابُ عادةً في إشارةٍ إلى التمرد، كما يعلّقُ على كتفِه حقيبةَ أعيرةٍ نارية. يُقدم غافروتش قدمَه اليمنى إلى الأمامِ ملوحاً بمسدسين من أسلحةِ الفرسان، ويرفع ذراعَه عالياً في الهواءِ وعلى شفتيه صرخةُ حربٍ تحرّضُ المتمردين على القتال. أما الثائرُ الذي تحملُ قبعتُه البيريه عقدةً بيضاءِ ملكيةً وشريطاً أحمرِ ليبرالياً، ويحملُ سيفاً من سيوفِ جنودِ المشاةِ فيمكن التعرف عليه كعاملِ مصنعٍ من خلالِ مئزرِه وبنطالِ البحارة الذي يرتديه، ويستحضرُ الوشاحَ -الذي يثبتُ مسدسَه إلى بطنِه- إلى الذهنِ صورةَ "منديل شوليه" علامةَ نداءِ التجمع الخاصةِ بالقائد الملكي "شاريه" والفينديين (من منطقة فيندي في فرنسا).
قد يكونُ الشخصُ الراكعُ على ركبتيه مع قبعةٍ برجوازيةٍ أو مدنيةِ المظهر هو ديلاكروا نفسَه أو أحدَ أصدقائه. يرتدي ذلك الشخص سروالاً فضفاضاً وحزاماً أحمرَ من النوعِ الذي يرتديه الحرفيون عادةً، ويحملُ بندقيةَ صيدٍ مزدوجةِ الفوهة. أما الرجلُ الجريحُ الذي يرفعُ نفسَه على مرأىً من ليبرتي فيضعُ وشاحاً مصفرّاً معقوداً يعكسُ لونَ فستانِ البطلة، ويبدو من ملابسِ الفلاحين التي يرتديها وحزامِه الأحمر أنه من عمالِ باريس المؤقتين، وتعكسُ سترتُه الزرقاءُ مع الحزامِ الأحمرَ وقميصُه الأبيض ألوانَ العلمِ المرفوعِ في الهواء.
يحتلُّ الجنودُ الممددون على الأرضِ في مقدمةِ اللوحةِ قاعدةَ الشكلِ الهرميّ، وبالإضافة إلى ليبرتي فإن الرجل عاري الساقين إلى اليسارِ ويديه ممدودتين إلى جانبيه بعيدتين عن جسدِه وسترتِه مقلوبةً هو شخصٌ آخرُ مستوحىً من الأساطير، وتحديداً من شخصيةِ -هيكتور- بطلُ هوميروس المؤرخ.
يستلقي إلى يمينِ المشهدِ حارسٌ سويسريٌ على ظهرِه مرتدياً زيَّ حملةٍ معاصرةٍ: معطفٌ كبيرٌ ذو لونٍ أزرقَ رماديٍ مع زينةٍ حمراءَ على القبة، وجواربُ بيضاءَ وحذاءٌ قصيرُ الساقين وقبعةُ "شاكو".
وبجانبه على الأرضِ فارسٌ يرتدي درعَه وغطاءَ أكتافٍ أبيضَ ووجهُه إلى الأسفل وجسدُه مرئيٌ إلى الخصرِ فقط.
إلى اليسارِ خلفَ الهرمِ نجدُ طلاباً وكتيبةَ جنودٍ من رماةِ القنابلِ يرتدون معاطفَ كبيرةً رماديةً وزيَّ حملةٍ. أما الجانبُ الأيمنُ من خلفيةِ اللوحةِ فرغم أنه يحتوي بعضَ العناصرِ من مشهدٍ للمدينة، إلا أنه يبدو خالياً وبعيداً مقارنةً بالمعركة المشتعلةِ في الجانب الأيسر. تمثّل أبراجُ كنيسةِ "نوتردام" الحريةَ والأسلوبَ الفنيَّ العاطفيَّ، وتعكسُ ما يحدث في باريس، لكن موقعَ الأبراجِ على ضفّةِ النهرِ اليسرى غيرَ دقيقٍ، كما أنّ المنازلَ المرسومةَ بينهم وبين النهرِ هي حتماً من مخيلةِ الفنّان. وعلى الجهةِ اليمنى من خلفيةِ اللوحةِ نجدُ أشعةَ غروبِ الشمسِ المختلطةِ بدخانِ المدافعِ تضيءُ الجثثَ وتشعُّ صانعةً هالةً حول جسدِ ليبرتي والفتى الشاب والعلمِ ذي الألوان الثلاثة.
تشهدُ لوحةُ ديلاكروا ذاتُ الطابعِ التاريخيِّ السياسيِّ على احتضارِ نظامِ الحكمِ القديمِ بكونِها مزيجاً من التوثيقِ والرمزيةِ، الواقعِ والخيالِ، الحقيقةِ والاستعارة. هذا العملُ الفنيُّ الواقعيُّ والمبتكر، صورةُ الحريةِ والثورة، رُفض من قبل النقادِ الذين اعتادوا على الرسمِ الذي يمثّلُ الواقعَ بطريقةٍ كلاسيكيّةٍ أكثر. وقد أُخفيت اللوحةُ عن العامةِ في البدايةِ ولم توضع في متحفِ لوكسمبورغ حتى عام 1863 ثم نُقلت بعد ذلك إلى اللوفر عام 1874. ويُنظر إليها الآن كعملٍ فنيٍّ عالميٍّ، ممثلةً للأسلوبِ العاطفيّ والحماسِ الثوريّ، ابنةُ لوحاتِ القرنِ الثامن عشر التاريخية، وأم "جرنيكا" لوحة بيكاسو من القرن العشرين.
أخيراً يبقى أن نذكر أن ارتفاع اللوحة 2.60 متراً، وعرضها 3.25 متراً. وتوجد اليوم في مقصورة مولين بالطابق الأول من جناح دينون في الغرفة رقم 77.
المصدر:
هنا