المدرسة البنائيّة في العلاقات الدَّوْليّة - الجزء الثاني: مُرتكَزات المدرسة البنائيّة
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة السياسية
حَدّد ويندت الفكرةَ الرئيسةَ التي تتمحورُ حولَها البنائيّةُ في مثالٍ عمليّ (concrete):
“500 British nuclear weapons are less threatening to the United States than 5 North Korean nuclear weapons”
«إنّ 500 سلاحٍ نوويٍّ بريطانيٍّ أقلُّ تهديدًا للولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ من خمسةِ أسلحةٍ نوويةٍ تمتلكُها كوريا الشمالية».
وهذا المثالُ يوضّحُ ثلاثةَ مُرتكَزاتٍ تقوم عليها البنائيةُ في تحليلِ السياسةِ الدَّوْلية:
أولًا: تفسيرُ القوةِ المادّيةِ لا يمكنُ أن يكونَ بمعزِلٍ عن المحتوى الاجتماعيّ:
إنّ سلاحَ كوريا الشماليةِ النوويَّ أخطرُ على الولاياتِ المتحدةِ (مهما كان كَمُّه) من سلاحِ بريطانيا (حتى لو كان عددُ الأسلحةِ النوويّةِ بحوزةِ بريطانيا أكبرَ بكثيرٍ مقارنةً بما تمتلكُه كوريا الشمالية)؛ لأن البنائيةَ تفترضُ أنّ التهديدَ المادِّيَّ أو القوّةَ المادِّيَّةَ بشكلٍ عامّ؛ لا يمكنُ أن تُحلَّلَ بمعزِلٍ عن التاريخِ والأفكارِ والقيمِ والتفاعلاتِ المتبادَلةِ بين الدول؛ فكوريا الشماليةُ عدوٌّ تاريخيٌّ للولاياتِ المتحدة، وأيُّ قوّةٍ مادّيّةٍ يجبُ أن تُفهمَ في سياقِ التاريخِ والأفكارِ والهُوِيّاتِ والتفاعلاتِ الاجتماعيةِ المتبادَلة.
إذن، فالمرتكَزُ الأولُ للبنائيّةِ هو المحتوى الاجتماعيُّ للقوةِ الماديةِ في العلاقاتِ الدَّوْلية.
ثانيًا: تتأثرُ المصلحةُ الوطنيةُ للدولِ بمؤثراتٍ اجتماعيةٍ تُسهمُ في تشكيلِها:
إنّ الفَهْمَ الاجتماعيَّ للقوةِ ينسحبُ أيضًا على مفهومِ المصلحةِ الوطنية، ففي المثالِ الذي طَرحه ويندت، يكونُ للولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ مصلحةٌ وطنيةٌ في الوقوفِ في وجهِ كوريا الشمالية؛ لأن القادةَ الأمريكيِّين يدركون العلاقةَ (العِدائيّةَ) معَها، بينما ليس من مصلحتِها احتواءُ بريطانيا؛ لأن الولاياتِ المتحدةَ الأمريكيةَ تدركُ المنافعَ المتبادَلة بينَها وبين بريطانيا، ليس انطلاقًا من فَهمِ المصلحة الذي تقدّمُه الواقعية، بل من منطقِ العلاقاتِ الاجتماعية (الصداقةِ، والعَداوة) . فبدلًا من النظرِ إلى الدولةِ بصفتِها مُعطًى مسبقًا، والافتراضُ أنها تعملُ من أجلِ بقائها؛ يرى البِنائيُّون أنّ المصلحةَ والهُوِيَّةَ تتفاعلُ عبر عملياتٍ اجتماعية (تاريخية).
أي إنّ المرتكَزَ الثاني للبنائيةِ هو المحتوى الاجتماعيُّ للمصلحة.
أخيرًا: طبيعةُ النظامِ الدَّوْليِّ هي الأنارْكيّة -كما أكّدت النظريّاتُ الواقعيّةُ والواقعيّةُ الجديدة، ولكن لا يمكنُ تحليلُها دونَ النظرِ إلى العلاقةِ التفاعليّةِ بين البنْيةِ والفاعلين. وبناءً عليه، فإنّ الأنارْكيّةَ (التي هي غيابُ السلطةِ الشرعيةِ المنظَّمةِ على الصعيدِ الدَّوْليّ) تُحَلَّلُ وَفْقًا للمقترَبِ البنائيِّ بفكرةِ التنافُسِ على المواردِ المحدودة، وهذا التنافُسُ هو علاقةٌ اجتماعيةٌ، أفضلُ طريقةٍ لتحليلِها وَفْقًا للمنطقِ البنائيِّ: دراسةُ البناءِ الاجتماعيِّ لها. وفي هذا السياق، يَقترحُ ويندت تصنيفَ علاقاتِ التنافُسِ وَفْقًا لسلسلةٍ ترتكزُ على متغيِّراتٍ توضِّحُ الأفكارَ التي تتبنَّاها الدولُ عن نفسِها وعن غيرِها. هذه السلسلةُ، حدُّها الأولُ: (العداوة)، والآخرُ: (الصداقة)، وفي المنتصفِ: (اللامبالاة).
وممّا سبق، يمكنُ تحديدُ فكرتين عامّتين تدورُ حولَهما البنائيّةُ في العلاقاتِ الدَّوْلية:
• أولًا: البيئةُ التي يتشكّلُ فيها فعلُ اللاعبين أو الفاعلين (الدول): اجتماعيةٌ بقدرِ ما هي مادّيّة.
فالبِنَى المادّيّةُ تأخذُ معناها ضمن السياقِ الاجتماعيِّ الذي تفسَّرُ من خلاله، وذلك بدورِه يؤثّرُ في فَهْمِ الفاعلين لمصالحِهم الوطنيّة.
• ثانيًا: في إطارِ عمليةِ التفاعُلِ بين البنْيةِ والفاعلين، تكونُ إرادةُ الفاعلِ وقدرتُه في التأثيرِ على المحيطِ موجودةً وحاضرة (أي إنّ الفاعلين ليسوا الدولَ فقط، بل غيرُها أيضًا؛ كالمنظَّماتِ غيرِ الحكومية).
إنّ المقترَبَ البنائيَّ في العلاقاتِ الدَّوْليةِ يحلِّلُ لِلعلاقاتِ الدَّوْليةِ من زاويةِ البناءِ الاجتماعيِّ للأحداثِ والمؤسساتِ والفاعلين، ونقطةُ البَدْءِ في هذا التحليلِ هي الارتكازُ على الافتراضِ الأبسْتمولوجيِّ الفلسفيّ؛ في أنّ الكيفيّةَ التي يفكّرُ ويتصرّفُ بها الأفرادُ والدولُ في السياسةِ الدَّوْلية؛ تعتمدُ على طريقةِ فَهْمِهم للعالمِ مِن حولِهم، وهُويّاتِهم التي يحملونها، والأفكارِ التي يكوِّنونها عن غيرِهم، أيْ خبراتِهم وأفكارِهم المتبادَلة. فالاعتقادُ بأنّ البنائيّةَ تهملُ دورَ القوةِ أو المصلحةِ هو مجردُ ظنٍّ اعتباطيّ؛ لأنّ الحقيقةَ أنها تُركّزُ على الكيفيّةِ التي بها يتشكّلُ هذان البُعدان في العلاقاتِ الدَّوِلية.
إنّ البنائيةَ لا تَدرُسُ البناءَ الاجتماعيَّ والعلاقاتِ الاجتماعيةَ لمجرّدِ دراستِهما، بل تدرُسُ العلاقاتِ الاجتماعيةَ بصفتِها مقترَبًا لتفسيرِ الكثيرِ مِن الظواهرِ والأحداثِ والمفاهيمِ والسُّلوكيّاتِ على الساحةِ الدَّوْلية. وبذلك تكونُ البنائيّةُ مقترَبًا أبسْتمولوجيًّا معرفيًّا مهمًّا، يمكِّنُ الباحثَ في العلاقاتِ الدَّوْليةِ من تفسيرِ الظواهرِ المنفصلة، أو السُّلوكيّاتِ المختلفةِ للفاعلين في الساحةِ الدَّوْلية؛ بتوظيفِ هذا المدخلِ بتركيزِه على القيمِ والأفكارِ والتفاعُلاتِ المتبادَلة.
المصادر:
(1) "CONSTRUCTIVISM"، Ian Hurd، 17-Smit-Snidal-c17 OUP218-Reus-Smit (Typeset by Spi، Delhi) 298 of 316 January 18، 2008، P: 298.
(2) CONSTRUCTIVISM، Ian Hurd، 17، P: 305.
(3) "Review Article THE CONSTRUCTIVISTTURN IN INTERNATIONAL RELATIONS THEORY" By JEFFREYT. CHECKEL، Cambridge University Press.
(4) مصدر ثانوي، (النظرية البنائية في العلاقات الدولية)، خالد المصري، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية - المجلد 30 - العدد الثاني.
المصدر الأساسي، 2014 Paul R. Viotti، International Relations Theory، 5th ed، London، Pearson، 2012، P: 278.