الثورة الفرنسية – الجزء الثالث (جان جاك روسّو) والجمهورية
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة السياسية
تُعدّ المرحلةُ الثانيةُ من الثورةِ الفرنسيةِ مرحلةَ الجمهوريِّين، والتي لم يقم فيها روسّو بتمهيدِ الطريقِ لبروزِ مصطلحاتِ الخِطاباتِ الثوريةِ فحسب، بل اعتُرفَ به بالإجماعِ على أنه أولُ من أدّاها أيضًا. وخلافًا لما كان عليه حالُ مونتيسكيو الذي أصبحَ اسمُه رمزًا للكرامةِ الخاليةِ من أشكالِ العاطفةِ كافّةً، حالُه حالُ أرسطو ولوك؛ فقد حَظِيَ روسّو بشعبيةٍ جارفةٍ وتقديرٍ كبير، حتى إنّ رُفاتَه قد نُقل من ضريحِه في إيرمونونفيل ضمن موكبٍ رسميٍّ إلى البانثيون في باريس.
لم يَقرأ كثيرٌ من الناسِ كتابَ روسّو (The Social Contract) أو (العَقْدُ الاجتماعيّ)، الذي وضع فيه نظرياتِه الجمهوريةَ وشرَحَها، إلا أنه استطاع نشرَ أفكارِه بواسطةِ الكثيرِ من الكتاباتِ الشعبية، وكذلك من خلال شخصيتِه التي قَرَّبها للناسِ عبرَ خطاباتِه. لقد تعمّدَ جعْلَ نفسِه معروفًا لدى الناسِ على أنه رجلُ الشعب، الرجلُ الذي لم يصرِّحْ بحبِّه للفضيلةِ والحريةِ فحسْب، بل عبَّر عن حبِّه ذلك من خلالِ حياتِه المثالية، وبنضالِه الدائمِ ضدَّ الظلم. لقد كان فيلسوفًا مبتذِلًا من وجهةِ نظرِ فلاسفةِ عصرِه؛ فجان جاك روسّو كان الشهيدَ وبطلَ الفقراءِ بالنسبة للشعب، إلا أنه أثارَ جدَلًا خدمَ أهدافَ الإرهاب؛ إذْ أَعلن لمدةٍ من الزمنِ أنه لا يمكنُ للشعبِ أن يكونَ حرًّا إلا إذا حكمَ نفسَه بنفسِه، غير أنه أعلن أيضًا في وقتٍ لاحقٍ أنّ الإنسان قد يُكرَه ليكونَ حرًّا. كما أنه طَرح فكرةَ إيجادِ دينٍ مدنيٍّ يُؤسَّسُ مكانَ الكنيسة، وكذلك فقد خَوَّل روسّو رئيسَ الجمهوريةِ لاستخدامِ سلطاتِ الدولةِ لقمعِ الرذيلةِ والجريمة.
لن يكونَ من العدلِ القولُ بأنّ روبسبيير هو من وضعَ نظريةَ روسّو موضعَ التنفيذ، تلك التي شَرحها في كتابِه (العَقْدُ الاجتماعيّ) أو (The Social Contract)؛ فقد استخدم روبسبيير لغةَ روسو، واستغلّ –بغرضِ التشويهِ– الكثيرَ من أفكارِ روسّو خلالَ فترةِ حكمِه التي عُرفت بعهدِ الرُّعب (إذْ عملَ خلالَ عهدِه ذاك على تطهيرِ فرنسا من أعداءِ الثورةِ جميعًا، وحمايتِها من التدخلِ الخارجيّ)، لكنْ على أيِّ حال، فإن عدمَ مصداقيةِ روبسبيير لا تعني مطلقًا عدمَ مصداقيةِ روسو. وفي حين أسفرَ انسحابُ كرومويل من المشهدِ السياسيِّ في إنجلترا عن كرهِ الشعبِ الإنجليزيِّ الدائمِ للحكمِ الجمهوريّ، إلا أنّ الحالَ في فرنسا لم تكن كذلك؛ فإعدامُ روبسبيير لم يمنع الفرنسيِّين من رغبتِهم في الحكمِ الجمهوريّ. إنّ فكرةَ سيادةِ الشعبِ وحكمِ نفسِه بنفسِه لَقِيَتْ أصداءً واسعةً وعميقةً لدى الفرنسيِّين، ولم يكن قطُّ لأيِّ ملكٍ فرنسيٍ أنْ يحظى بالأمانِ على عرشِه بعدَ أن تأصَّلتْ تلك الفكرةُ في الوعيِ الوطنيِّ الفرنسيّ.
عندما أُطيحَ بأولِ نظامٍ جُمهوريٍّ فرنسيّ، بالانقلابِ الذي قادَه نابليون، لم يكن ذلك الحدثَ الذي انتهتْ به الثورةُ الفرنسية، بل كان الطريقَ الذي قادَ إلى المرحلةِ الثالثة، أو (المرحلةِ الإمبرياليةِ) كما سُمّيتْ. ومرةً أخرى، كان على نابليون ألّا يطلقَ العِنانَ لأفكارِه إلى أبعدَ من تلك التي طرحَها عصرُ التنوير.
المصدر:
هنا