البحث عن المادة المظلمة: تراجع بعض التفسيرات وعودة غيرها للمقدمة مجددا
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
بُعيد اكتشاف المادة المظلمة ، أيقن الفلكيون أنها تشكل معظم المادة في كوننا ، وحاولوا تصنيف تلك المادة الغامضة، ولكنهم وبعد ثلاثة عقود من البحث المضني لم يجدوا أي من مكوناتها، مما دفعهم ليعيدوا النظر في أفكارهم الأساسية حولها مجدداً .
إحدى التجارب الهادفة إلى البحث عن المادة المظلمة سعت إلى تقفي أثر أحد الجسيمات المرشحة لان تكون مكونا للمادة المظلمة والمسماة WIMPs وهي اختصار لـ" الجسيمات الثقيلة ذات التفاعل الضعيف" وهي من أكثر التجارب حساسية حتى الان. كانت تلك التجربة قد أعلنت عدم التقاط اي جسيم حتى الان في تشرين الأول الماضي. مما دفع الباحثين إلى أن يعيدوا النظر في مرشح آخر للمادة المظلمة كان ينظر على أنه مرشح هامشي. بالإضافة إلى فرضيات كانت مستبعدة، كاعتبار المادة المظلمة مصنوعة من شيء لن يمكننا التقاطه على اجهزتنا.
لا يملك علماء الفيزياء حتى الأن أي دليل قطعي على وجود المادة المظلمة، كل ما لديهم هي ادلة غير مباشرة ترجح وجودها، فبعض حركات المجرات والنجوم وغيرها من الاجرام السماوية لا يمكن ان تفسر إلا من خلال أثر ثقالي أكبر من الاثر الثقالي الناتج عن المادة العادية، فلابد من مادة ما غير مرصودة يضاف أثرها الثقالي إلى ذلك الناتج عن المادة العادية كي يكتمل تفسير حركات النجوم والمجرات. وكل المحاولات لتعديل النسبية العامة لكي يصبح من الممكن تفسير نتائج الرصد دون افتراض وجود المادة المظلمة بائت بالفشل.
لقد كان تفسير المادة المظلمة من خلال "الجسيمات الثقيلة ذات التفاعل الضعيف" هو التفسير المفضل للعلماء لفترة طويلة، فهي من ناحية ما تتوافق مع بعض الأفكار الفيزيائية الشائعة حالياً كالتناظر الفائق، والتي تفترض ان جميع الجزيئات المعروفة في الكون لديها جزيئات قرينة غير مكتشفة بعد،أصغرها - كما كان معتقداً - جسيمات التفاعل الضعيف، والمرشحة لأن تكون الجزيئات المكونة للمادة المظلمة، فمنذ بداية الثمانينات، أُجريت العديد من التجارب للكشف عن تلك الجسيمات في حال اصطدمت مع جسيمات المادة العادية.كان مشروع زينون الكبير تحت الأرض LUX في جنوب داكوتا آخرها واكثرها دقة من حيث القياسات قد اعلن عدم التقاط اي أثر لهذه الجسيمات بعد استمرار التجربة لثلاثة أشهر.
لو كانت جسيمات التفاعل الضعيف موجودة فقد استنفذت معظم الاماكن التي من الممكن أن تكون مختبئة فيها. "نحن نضيق حلقة البحث" كما يقول البروفيسور ريتشارد غايتسكيل مشيراً إلى فشل نصف النماذج الرياضية المقترحة لتفسير المادة المظلمة إعتمادا على تلك الجسيمات، فلابد من حدوث تغيير في البحث خلال العقد القادم ، إما من خلال البت بوجود تلك الجزيئات من عدمه ،او باللجوء لفرضيات أخرى. ولكن إن لم تكن المادة المظلمة مكونة من تلك الجسيمات، فما هي مكوناتها إذاً ؟
يقترح الباحثون جسيمات أصغر لتفسير المادة المظلمة تسمى آكسيونات " axions" ، وحجمها الصغير يقلل من إحتمالية تصادمها مع جزيئات المادة العادية، مما يجعلها أصعب في الرصد من سابقتها، لكن جسيمات التفاعل الضعيف تتمتع بقاعدة نظرية أكثر صلابة، مما وضعها في المقدمة من حيث عدد المشاريع المهتمة بالبحث عنها، فحتى الان لا يوجد سوى مشروع واحد للبحث عن الأكسيونات.
مع انعدام النتائج الإيجابية خلال البحث عن الجسيمات السابقة، سواء أكانت الاكسيونات أو سابقتها، بدأ الفيزيائيون النظريون في البحث عن بدائل أخرى، كاعتبار المادة المظلمة تجمعاً من الثقوب السوداء الفائقة الصغر، لكن الرصد الفلكي لا يقدم نتائج داعمة لتلك الفرضية، رغم أنها قد تعود للأضواء من خلال بعض التلاعب في المعادلات النظرية.
تفسير آخر يعتمد على نوع محدد من الكواركات وهي الكواركات الغريبة ، والتي يمكن أن تولدها النجوم النيوترونية العملاقة بكثافة كافية لأن تشكل بتجمعها نوع خاص من النجوم يدعى النجوم الكواركية، والتي تتمتع بحقل ثقالي دون ان تشع أي ضوء.
هذه ليست سوى عينة من التفسيرات الممكنة للمادة المظلمة، لكن أسوء احتمال في نظر الفيزيائيين هو أن تكون المادة المظلمة مؤلفة من جزيئات لا تتآثر مع المادة العادية إلا بقوة الجاذبية مما يجعل من مهمة رصدها أمراً مستحيلاً، فضلاً عن استحالة التأكد من صحة أو عدم صحة هذه الفرضية.
لحسن الحظ تلك الفرضية غير مدعومة نظرياً ، فكيف لجزيئات لا تتآثر إلا بالحقل الثقالي ان تتشكل في كوننا منذ البداية كما يتسائل الفيزيائي النظري بيتر غراهام من جامعة ستانفورد. كما أن لجسيمات التفاعل الضعيف و للأكسيونات آلية تشكل معقولة نظرياً، رغم ذلك فهي لاتزال مجرد احتمالات مطروحة.
وبالرغم من عدم رصد المادة المظلمة حتى الان، إلا أن العلماء قد يستطيعون تكوينها في مسرعات الجسيمات (كمصادم الهادرونات الكبير LHC في سيرن) خلال عملية تصادم البروتونات، كما يوجد أمل ايضا في أن دراسة أشعة غاما القادمة من مركز المجرة قد تكشف عن جزيئات المادة المظلمة المفترضة، فيما لو صحت فرضية فناء جسيمين مظلمين عند تصادمهما، ورغم وجود بعض المؤشرات على صحة هذه النظرية، إلا أنها لا تزال بعيدة عن البت النهائي.
في النهاية الأمر ، لا يهتم اي فيزيائي بأن يكون نموذجه للمادة المظلمة هو الصحيح طالما أنهم سيحصلون على الجواب في النهاية. فكما يعبر بلاس كابريرا من جامعة ستانفورد والذي يقود احدى التجارب للبحث عن المادة المظلمة "كما في كل البحوث العلمية، لا يوجد ضمانة للنجاح، كل ما يمكن القيام به هو الإستمرار في البحث عن اجوبة لأسئلة تأرِّق الفكر البشري على الداوم".
المصدر: هنا
حقوق الصورة: Matt Kapust/Sanford Underground Research Facility