مراجعة مسرحية (سيزيف الأندلسيّ): لعنة سيزيف انتقلت إلى الأندلس
كتاب >>>> روايات ومقالات
(سيزيف الأندلسيّ) مسرحيةٌ شعريةٌ تتمحورُ حولَ الشاعرِ الوزيرِ ابنِ زيدون، ومَن منّا لم يسمعْ بأحمدَ ابنِ زيدون؟ هذا الشاعرُ الذي الْتهبَ حبًّا وعشقًا وغرامًا بولّادةَ بنتِ المستكفي آخرِ الخلفاءِ الأُمويّين في الأندلس. ولّادةُ التي هام القاصي والداني بجمالِها وحبِّها، ولّادةُ التي حوّلت ابنَ زيدون، صاحبَ العقلِ الراجحِ واللسانِ البليغِ إلى عصفورٍ لا يُجيدُ سوى زقزقةِ أغاني الحبِّ وأنغامِه. (سيزيف الأندلسيّ)، هذه المسرحيةُ التي تحملُ ما بين طَيّاتِها عصرَ الأندلسِ السحريّ، ذلك العصرَ الغامضَ الذي لطالما تغنّى به العرب، ولكن يا تُرى هل كان هذا العصرُ حقًّا عصرًا حافلًا بالحضارةِ والإنجازات، التي من شأنِها أن تجعلَ من الأندلسِ هذه الجوهرةَ الثمينةَ التي لا غِنًى عنها، والتي يبكيها العربُ حتى اليوم؟ أم إنّ عصرَ الأندلسِ هو عصرُ السقوطِ، وعصرُ الوشايةِ والقُنوط، وعصرُ المصالحِ والتحوُّلاتِ، وعصرُ الخيانات؟
لتحصلَ على أجوبةٍ لهذه التساؤلات، ما عليك إلا تتبُّعُ ابنِ زيدون؛ فهو المفتاحُ لكلِّ باب، والضوءُ الذي ينيرُ كلَّ كهفٍ من كهوفِ المسرحية. ابنُ زيدون هو قَدَرُ قرطبة، وهو حظُّها وغرابُها الذي يولولُ على أسوارِها، ولكنّ هذه الولولةَ غالبًا ما بقيت مختفيةً صامتة، قابعةً في نفسِ ابنِ زيدون. لكنْ في المقابل، وعلى الرغم من كونِ ابنِ زيدونَ الشاعرَ والفارسَ الذي لا يخشى مواجهةَ أحد، ولا يهتزُّ لبطشِ مؤامرةٍ مهما كان حجمُها؛ يبقى هو (جروَ) ولّادةَ الذي ينعمُ بمداعبةِ يديها، والذي لا ينامُ إلا لكي يحلُمَ بعينَيها، ويجنيَ أقحوانَ الثغورِ ورمّانَ الصدور، فهي ولّادةُ التي تعرفُ مكانتَها عندَ ابنِ زيدون، وهي القائلة:
أنا والله أصلحُ للمعالي * وأمشي مِشيتي، وأتيهُ تِيهَا
أُمكّنُ عاشقي مِن صحنِ خدّي * وأعطي قبلتي مَن يشتهيها
ولذلك سوف تلاحظُ أيها القارئُ أنّ ابنَ زيدونَ مقولبٌ محصورٌ بحبِّ ولّادة؛ فهي التي لطالما حاولت منعَه من مغادرةِ قرطبة، وهي التي أبقتْه عاشقًا راكعًا أمامَ مطالبِها، هي التي لقّبتْ نفسَها (سلطانةَ الظلّ)، وهي التي غارتْ من جاريتِها (عُتْبة) وعاقبتْها أشدَّ العقابِ لمجردِ شكِّها بحبِّها لابنِ زيدون، هي التي أجبرتْه على أنْ يعاهدَها على عدمِ مغادرةِ قرطبة، وأنْ يبقى مِلْكًا لها وحدَها أبدَ الدهر.
وبالطبع، لا يمكنُنا إغفالُ أحدِ أهمِّ الشخصياتِ في المسرحية؛ (ابنِ القَلّاس)، هذا الخطّاطُ والمِعماريُّ والفُسيفسائيُّ والمنجّم، صاحبُ أبرعِ الأيدي فنًّا وخطًّا في الأندلس. ابنُ القَلّاسِ الذي نافسَ ابنَ زيدونَ في حبِّه لولّادة، والذي لم يستطع الوصولَ إلى أسفلِ قدمِها؛ فبَخِّ السُّمَّ في مكارمِ ابنِ زيدونَ وخُلُقِه. ابنُ القَلّاسِ الذي اتّخذ مِن الوشايةِ والفتنةِ سلاحًا، وصنع فخًّا ناريًّا للإيقاعِ بابنِ زيدونَ والخلاصِ منه، بمشاركةِ حليفِه في الوشاية (ابنِ المَكْوِيّ)، صاحبِ كرسيِّ القضاء، والذي وصل إليه بالغِشِّ والمؤامرة.
«الوشايةَ الوشاية! إنها لتكسرُ ظهرَ أبي الهول، وتحرّكُ أهرامَ مصرَ من مكانِها!».
ولفَهم هذه المسرحيةِ الشعريةِ التاريخية؛ لا بدّ من طرحِ الكثيرِ من الأسئلةِ المحورية:
• هل يجبُ علينا بصفتِنا قرّاءَ أن نَعُدَّ ابنَ زيدونَ بطلًا تراجيديًّا، أم مجردَ تابعٍ عاشقٍ لولّادة؟ أم كلَيهِما؟
• هل يجبُ علينا قراءةُ المسرحيةِ بعدَ أنْ نكونَ قد سَلخْنا عن عقولِنا الفكرةَ المثاليةَ الطُّوباوِيّةَ عن الأندلس؛ كوننا قرّاءَ عربًا؟
• هل قَصد الكاتبُ من فعلِ تدميرِ مسيرةِ ابنِ زيدونَ وحياتِه بالوشاية؛ أنْ يوصلَ رسالةً مُفادُها أن الأندلسَ دُمّرت من الداخل، ودُمّرت بسبب خللٍ داخليٍّ تسبّب فيه أصحابُ الكلمةِ العليا في البلاط؟
• هل كان انسياقُ ابنِ زيدونَ وراءَ الحبِّ هذا الانسياقَ الأعمى؛ عملًا ناجمًا عن قناعتِه الفكريةِ والعقلية، أم إنّ ابنَ زيدونَ لا سلطةَ له أمامَ الحب؟
• ومَن أحبَّ ابنُ زيدونَ أكثر؛ (ولّادةَ) أم (قرطبة)؟ وهل كان عدلًا أن يكون حبُّه لهما سببًا لدمارِه؟
لكنْ ما يمكنُ قولُه في النهايةِ بشكلٍ واضحٍ على أنّه نتيجةٌ صريحة؛ هو أنّ ابنَ زيدونَ الشاعرَ الوزيرَ العاشق؛ انتهى به المطافُ مدمَّرًا محطَّمًا، ككأسِ خمرٍ زجاجيةٍ وقعتْ من يدٍ واهنةٍ لا تَقوى على حملِها، فيهتفُ ابنُ زيدونَ مقسورًا:
وداعًا يا قرطبة!
أربِطُ الأفقَ بقلبي
وأغنّي للمدينةْ..
آهِ يا أندلسَ الشعرِ الحزينةْ!
آهِ يا أجراسَ صوتي!
في شعابِ الزمنِ الأسودِ شَعّتْ أغنياتي
لَغَّمَ الحبُّ حياتي
والينابيعَ التي غَنَّتْ حياتي
آه يا أجراسَ صوتي!
اُسْرُجي لي فرسَ الحزنِ القديم
واربِطي الأفقَ بقلبي!
«الوداعَ الوداعَ يا أرضَ الطفولةِ والصِّبا، وداعًا يا قرطبة!».
-----------------------------------------------------------
معلومات المسرحية:
العنوان: سيزيف الأندلسي.
تأليف: نذير العظمة.
دار النشر: منشورات وزارة الثقافة بدمشق، 1981.
الطبعة الأولى: دمشق، 1981.
تصميم الغلاف: الفنان غسان السباعي.
عدد الصفحات: 168 صفحة، قطع متوسط.