مراجعة رواية "كوابيس بيروت" لغادة السمان: عندما يخط الموت مذكراته الشخصية
كتاب >>>> روايات ومقالات
"وفجأة انطلقت رصاصةٌ... لا أدري هل سمعنا صوتها أولاً أم شاهدنا السلّة تهوي في الفراغ مثل رجلٍ سقط من الشرفة. وفهمنا جميعاً بومضة برقٍ مدلولَ ما حدث: هنالك قنّاصٌ ما أطلق رصاصةً على الحبل الرفيع. لقد عرض مهارته أمام أهل الحيّ جميعاً ... لقد قال لنا جميعاً: إنني قادرٌ على إصابة أي هدف مهما كان دقيقاً و نحيلاً، قلوبكم كلها تحت مرماي ... شرايينكم أستطيع أن أثقبها شرياناً شرياناً ... أستطيع أن أصوب داخل بؤبؤ عيونكم دون خطأ ... وحين هوت السلة، شعرت بأن الحي كله تحول إلى قلبٍ واحدٍ يتنهد بغصة. وأدركنا جميعاً أننا سجناء ذلك الغول الغامض المختبئ في مكان ما والذي يتحكم بدورتنا الدموية والعقلية والنفسية لمجرد أنه يملك بندقية ذات منظار تدرب عليها لبعض الوقت ... ولتذهب إلى الجحيم كل الساعات التي قضيناها في الجامعات وداخل المختبرات لنتعلم ...!! وحين سقطت السلة، سقطت آمالنا معها وتكومت على الرصيف جثةٌ تحتضر. حين سقطت السلة، حزنّا كما لو أن طفلاً سقط من على دولاب مدينة الملاهي وانطفأت الأضواء والضحكات كلها دفعةً واحدة."
غادة السمان التي لطالما كتبت عن الحب كتبت هذه المرة عن الحرب، كتبت غادة عن الحرب الأهلية في لبنان وفي بيروت على وجه التحديد حيث احتُجزت مع أخيها في بيتها الواقع في أحد أحياء بيروت التي صادف أن تكون منطقة اقتتالٍ حامية. احتُجزت لأيامٍ طويلة أحسّت بأنها دهراً، عايشت خلالها الجوع والعطش والبرد والسّجن والحب والكره والفراق والاشتياق لحبيبها يوسف ذاك الذي قُتل أمام عينيها على حاجزٍ تابعٍ لصبيةٍ صغار كانوا سابقاٍ من طلابه، كانوا من دينه وطائفته ذاتها ولكنّه قُتل لمرافقته لغادة، التي كانت من طائفةٍ أخرى وتم بعدها وسمها هي بوسم طائفتها ليبقى محفوراً على جسدها وفي ذاكرتها كيف تفرّق بين من هي ومن هو. عايشت القذائف التي كانت تنهال على بيتها وطلقات الرصاص التي كانت تدخل غرفتها وهي لا تزال فيها حتى اضطرّت أن تأوي أو تسجن مع جارها العم فؤاد وابنه أمين وخادمهم في بيتهم في الطابق الأرضي. شاهدت غادة من شباك غرفتها الجثث تملأ الشوارع كما أصبحت خبيرة بأماكن القناصة في الأبنية المقابلة لها كما تحدثت عن الجوع والعطش اللذين هاجماهم وعن أخيها الذي خرج من البيت في محاولةٍ بائسة للحصول على بعض الطعام و لكن انتهى به الأمر في السجن لحيازته سلاحاً قديماً غير مرخص كان قد أعطاه إياه العم فؤاد لحماية نفسه! تنقلُ لنا غادة في سردها لهذه الحادثة السخرية العظيمة والـلامنطق الذي كان يسود الأجواء في تلك الفترة. تحدثت عن الكهرباء المقطوعة وأسلاك هاتفها الميتة بلا حرارة. وصفت آلامها و هي ترى مكتبتها الثمينة تحترق أمام عينيها بينما هي تقف مكتوفة الأيدي مودعةً ذكرياتها محاولةً مواساة نفسها بلا جدوى، بدأت تناقش حينها دورها ودور المثقفين الثائرين في تأجيج هذه النار وأحست بالذنب حينا لأنها لم ترد لهذه الحرب أن تشتعل ولا لهذه الدماء أن تراق وبالاستسلام لحقيقة أن الحرب والرصاص هي كلماتها الثورية مجسدة على أرض الواقع وبأن أي تحقيق لما كانت تدعو إليه لا يتم إلا بالرصاص .
كان الفراغ و الوحدة اللذان عاشتهما كفيلان بجعلها تمرّ بكل ذكرياتها مع يوسف وأحلامهما سويةً وحبهما الفقير الغني كما جعلاها أيضاً تختلق قصصاً و أحاديث في مخيلتها، قصصاً كانت تلقي الضوء على كل جوانب الحياة في بيروت و في لبنان في تلك الفترة. تكلمت عن الفساد المترسخ في المجتمع البيروتي وعن الفروقات الاجتماعية والطبقات المختلفة فيه وعن مدى تأثير هذه الحرب على كل منها. ونستطيع أن نقرأ في سطورها مدى تأثير الفقر على سكان بيروت وكيف وضحت لنا غادة كيف أنه واحد من أكبر الدوافع وراء هذه الحرب.
كان وصف غادة بليغاً جداً وكان تصويرها لكل ما رأت بلغتها الأنيقة ومجازاتها الذكية يجعلك تعيش معها أصعب أيامها. هكذا كانت بيروت وهكذا رسمتها لنا غادة في كوابيسها الـ 197 والتي نقلتها لنا بعد مجازفة إنقاذها.
بدأت غادة كتابة روايتها ليلة الثالث عشر من تشرين الثاني 1975 وأتمتها في السابع و العشرين من شباط 1976، نشرتها بعد ذلك مسَلسلةً في إحدى المجلات اللبنانية مع أوائل العام 1976، وتوقفت المجلة عن نشرها في آب 1976 اعتبارا من كابوس ،160 ولاقت بعدها رواجاً محلياً وعالمياً كبيراً حيث ترجمت إلى أكثر من لغة منها الإنكليزية والألمانية والروسية والبولونية أيضاً.