مراجعة رواية
كتاب >>>> روايات ومقالات
بجملةٍ مربكةٍ كهذه يبدأ محمد الماغوط روايته الوحيدة: الأرجوحة.
لقد أتى الماغوط من عالم الشعر إلى فنّ الرواية مُحمَّلاً بنفسه الشعري الواضح، سارقاً معه إلينا ذلك الاستغراقِ الممتع في الوصفِ والغوصِ في التفاصيل. بلغةٍ حسّاسةٍ ينقلنا الكاتب من زاوية الفيء إلى مسرح الضوء لنجدَ أنفسَنا أمامَ واقعٍ إشكاليّ تفادى الكثير من الكتّاب الخوض فيه خصوصاً مع الهامش الضيّق للحريّات الاجتماعيّة والسياسيّة في النصفِ الثاني من القرنِ الماضي، واقعٌ دفع الكثير من الكتّاب وأصحاب الرأي ثمنَ إلقاء الضوء عليه سنيناً من السجن أو النفي.
يمسك الماغوط بيدنا متنقّلاً بكلماتِه بين الفقر والحبّ والمساكنة، إلى بساطة الحياة الريفيّة، وصولاً إلى الحريّات الإعلاميّة وثمن الآراء السياسيّة.
بتعبيرٍ حسيّ عالٍ، يصف الماغوط الأشياء، مهما بدت بعض الأمور اعتياديّةً في الحياة ومن دون مدلولٍ يُذكر إلّا أنّها ذاتُ قيمةٍ حميميّةٍ لدى الكاتب، إنّه يشيئن الكلمات، يصفُ المقهى بطريقةٍ تدعوك إلى شربِ القهوة معه، يكتب عن الشارع إلى تلك الدرجة التي تشعر بها معه بأنّ الاسفلت جزءٌ من قَدمك، يرمي بذلك النوع من الجُمل التي لن تتركَ مكانها في الذاكرة، بعض الجُمل تبدو هاربةً من ذلك الزمن لتصف ما نحن عليه اليوم، "لقد آن فِطامك أيّها الرصاص" تقع هذه الكلمات على السمع كدعوةٍ لما نعانيه اليوم.
كثيرٌ من النقّاد راحوا إلى اعتبارِ أنّ "الأرجوحة" هي أقربُ ما تكون إلى المذكّرات الشخصيّة لأنّ الماغوط روى أحداثاً جرت معه بالتفصيل ولكن بنفسٍ روائيّ يحتملُ قالباً مُتخيَّل، أسقط من خلاله الكاتب أحداث حياته على أبطالٍ مُفتَرضين.
الحرّيّات تحت المجهر الروائي:
يفردُ الكاتب الفصلين الأوّل والثاني للحديث عن "غيمة" الحبيبة المُفتَرضة للصفحي "فهد التنبل" بطل هذه الرواية. يُغرِقنا الماغوط في كمِّ الحبّ الهائل الذي يملأ تلك "الغرفة المنسيّة" على أحد أسطح بيوت دمشق، حيث تزوره غيمة، وحيث يجب عليه أن يبقى مختبئاً خوفاً من الاعتقال، لكن مِقصلة الرقيب الاجتماعي المتمثّلة بعيون الناس ووشوشاتهم، حاضرةٌ دوماً جاهزةٌ أبداً للتدخّل في أدقّ الأشياء، حتّى تلك لا تعني أحداً سوى فاعِلها.
وينتقل بنا بعد ذلك إلى الأقبية، من مُعتقَلٍ إلى آخر، ومن سجّانٍ إلى سجّان، يروي لنا قِصصاً عن ذلكَ العالمِ الخفيّ والمُخيف، ذلكَ العالم المليء بالقصصِ التي تنتظرُ من يرويها.
في السِجن يُمكن لك أن ترى مشاكلَ المجتمع وثغراته، يمكنك أن تنظرَ إلى الهرمِ من الأسفل، يمكنك أن تعرفَ كيف تُستثمر أموالُ الحكومات وأين، تلك العيّنة الرديئة من المجتمع تسمحُ لك أن تجريَ مسحاً عن الثقافة والتعليمِ والحريّات والأخلاق والدّين والعقد الإجتماعي إن وجد، وهل هناك أفضل من الماغوط لتقييم ما سبق.
في الفصول اللاحقة من الرواية تدور الأحداث بين القرية البعيدة التي يبحث ساكنوها عن موسمٍ يمنعهم ثمنُه من الموت جوعاً، بين أمّه القرويّة البسيطة وأبيه الأبسط، وبين سكّان القرية الذين يتهامسون عن أنّ الفهد سُجِن لأنّه يتكلّم في مقالاته عن "الكادحين" تلك الكلمة المُخيفة لهم والتي لا يعرفون معناها.
يعودُ بنا مرّةً أُخرى إلى التحقيق في المُعتقَل، وعن السؤال عن تلك الآلة التي وشى به أحد الجيران أنّه يستعملها، ينزِفُ دماً كثيراً ويُغمى عليه تكراراً قبل أن يتأكّدوا منّه أنّها مجرّد لعبةٍ صغيرة كان يُصلحها لأحدِ الأطفالِ في نفس البناء "لأن أمَّ الطِفل كانت منشغلةً عنه في حفظِ النسل".
يمكن القول أنّ الأرجوحة هي بمثابة تُحفةٍ روائيّةٍ لصاحب "سأخون وطني"، 131 صفحة تفرضُ نفسَها عليك كوجبةٍ أدبيّةٍ كاملةٍ غيرَ مُتقطِّعة.
صدر هذا الكتاب عن "دار رياض الريس" في لندن عام 1991.