الشَّبكاتُ العصبونيَّةُ تُحلِّل ظاهرةَ التعدُّس الثِقالي
الفيزياء والفلك >>>> علم الفلك
أكَّدَ باحثونَ من قسمِ الطَّاقةِ التَّابعِ لمختبرِ التَّسارعِ الوطنيِّ (National Accelerator Laboratory) وجامعة ستانفورد (Stanford University) أولَ مرَّةٍ إمكانيةَ استخدامِ الشَّبكاتِ العصبيَّةِ وهي إحدى أشكالِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ في تحليلِ التَّشوهاتِ المُعقَّدةِ لنسيجِ الزمكان والمعروفةِ بالعدساتِ الثِّقاليةِ (gravitational lenses) أسرعَ بعشرةِ أضعافٍ من الطرقِ التَّقليديَّةِ. المصادر: 1 - هنا 2 - هنا مقالاتُنا السابقة: هنا
ويُؤكِّدُ الباحث Laurence Perreault Levasseur - وهو مؤلِّفٌ مشاركٌ للدراسةِ التي نُشِرت في مجلة Nature - أنَّ عملياتِ التَّحليلِ التي تستغرقُ أيامًا وربَّما شهورًا تحتاجُ عبرَ استخدامِ الشَّبكاتِ العصبونيَّةِ إلى جزءٍ من الثَّانية.
ما هي الشَّبكاتُ العصبونيَّةُ؟
الشَّبكاتُ العصبونيَّةُ neural network هي إحدى أنواعِ الذكاءِ الاصطناعيِّ تعالِجُ وتحلِّلُ المعلوماتِ بسرعةٍ كبيرة، وتعملُ بطريقةٍ تُشابهُ عملَ الدِّماغِ الذي يتألَّفُ من أعدادٍ كبيرةٍ من العصبوناتِ، ولهذا سُمِّيت ب "الشَّبكاتِ العصبونيَّة"، إذ تتكوَّنُ هذه الشَّبكاتُ من وحداتٍ حسابيَّةٍ منفردةٍ تُماثِلُ في عملِها العصبوناتِ وترتبطُ بالبيكسلات الموجودةِ في الصورةِ المرادِ تحليلُها.
تُرتَّبُ هذه الوحداتِ الحسابيَّةِ على شكلِ طبقات؛ طبقةُ مدخلاتٍ وطبقةُ مخرجاتٍ بالإضافةِ إلى طبقةٍ أخرى تحوِّلُ المدخلاتِ إلى مخرجاتٍ يمكن الاستفادةُ منها في الطَّبقةِ التالية، وتبحثُ الطَّبقةُ عن ميزةٍ معيَّنةٍ في الصورةِ وما أن تَجدَ تلكَ الميزةَ حتى تنقلَ المعلوماتِ إلى الطَّبقةِ التي تليها، وهي بدورِها تبحثُ عن ميزةٍ أخرى وهكذا، فتُعدُّ الشَّبكاتُ العصبونيَّةُ أدواتٍ ممتازةً لإيجادِ الأنماطِ المُعقَّدةِ التي يَصعُبُ على المبرمِجِ البشريِّ إدخالُ تفاصيلِها العدديَّةِ للبرامجِ الحاسوبيَّةِ للتعرُّفِ عليها، وعلى الرَّغمِ من وُجودها منذ أربعينيّاتِ القرنِ الماضي لكنَّها لم تُستخدَم بفعاليَّةٍ إلَّا في العقودِ الأخيرةِ وذلك بسببِ دخولِ تقنيَّاتٍ جديدةٍ تُساعدُ الشَّبكاتِ في تحليلِ الأنماطِ التي تتشابهُ فيما بينها.
والمفاجِئُ في تطبيقِ الشَّبكاتِ العصبيَّةِ في هذا المجالِ هو أنَّها تمكَّنَت من تعليمِ نفسِها الميزاتِ المُرادِ البحثُ عنها وفقًا لما أورَدهُ Phil Marshall أحدُ المشاركينَ في الدراسةِ إذ تكتفي بمشاهدةِ الصُّورةِ للتعرُّفِ على الميزةِ بدلًا من إدخالِ معلوماتٍ عنها، فضلًا عن إمكانيةِ استخدامِها على حاسوبٍ عاديٍّ أو جهازِ هاتفٍ ذكيٍّ متطوِّر.
إنَّ استخدامَ هذه التِّقنيةِ في مجالِ أبحاثِ الفلك في تطوُّرٍ مستمر - إذ تمكَّنَت هذه التِّقنيَّةُ من إعطاءِ نتائجَ موثوقةٍ في وقتٍ قليلٍ جدًا - مؤشرٌ مهمٌ على إمكانيةِ دخولِ الشَّبكاتِ العصبيَّةِ في مجالِ أبحاثِ الفضاءِ المستقبليَّة.
التعدُّس الثِقالي:
يمكن لانتقالِ الضَّوءِ في الفضاءِ إعطاءُ معلوماتٍ عن المِنطقةِ التي مرَّ بها، فهو يَنحَني عند المرورِ عبرَ جسمٍ هائلِ الكُتلة، وبهذا يُمكنُ لثقبٍ أسودَ أو أي جسمٍ ذي كتلةٍ هائلةٍ أن يجمعَ الضَّوءَ القادمَ من الأجسامِ الموجودةِ خلفه، ويعملُ على تركيزِه نحو الأرضِ لنرصُد نحن بدورِنا تلك الظاهرة، لأنَّ ما يحدثُ للضَّوءِ يشابِهُ حالةَ انحنائِه داخلَ العدساتِ الزُّجاجيةِ فسمِّيت الظاهرةُ بالتعدُّس الثِّقالي (gravitational lensing) لمعرفةِ المزيدِ عن التعدُّس الثِقالي
إضغط هنا
ولفهمِ هذه الظَّاهِرةِ يحتاجُ الخبراءُ إلى رصدِ النُّجومِ من أكثرِ من زاويةٍ و باستخدام أكثرِ من مقرابٍ، والذي يُؤدِّي إلى وجودِ كميَّاتٍ ضخمةٍ من البيانات، ومن ثمَّ عملياتُ تحليلٍ طويلةٍ ومُعقدةٍ وتَظهرُ هنا أهميةُ اللُّجوءِ إلى الذكاءِ الاصطناعي.
إنجازُ تحليلٍ معقَّدٍ بسرعةٍ فائقةٍ:
استخدَمَ الفريقُ البحثِيُّ من معهدِ كافلي (Kavli Institute for Particle Astrophysics and Cosmology)، الشَّبكاتِ العصبونيَّة لتحليلِ صورٍ مُعقَّدةٍ تُظهِرُ التَّعدُّسَ الثِقاليّ في مجرةٍ بعيدةٍ للغايةِ تضاعَفَت وتشوَّهَت إلى حلقاتٍ وأقواسٍ بتأثيرِ جاذبيَّةِ جسمٍ هائلٍ مثلَ عنقودٍ مَجَري، إذ يوفِّر لنا التَّشوه أدلةً على التَّوزيعِ الكُتَليِّ في الكونِ وكيفيَّةِ اختلافِ هذا التَّوزيع، فضلًا عن خصائِصَ مرتبطةٍ بالمادَّةِ المُظلمةِ غيرِ المرئيَّةِ والتي تُشكِّلُ 85% من مُجملِ المادَّةِ الموجودةِ في الكون، والطَّاقةِ المُظلمةِ المرتبطةِ بتسارُعِ توسُّع الكون.
وإلى الآن؛ فإنَّ هذا النَّوعَ من التحليلِ يُعدُّ مملًا وطويلًا ويتضمَّنُ مقارنةَ صورٍ حقيقيةٍ لعدساتٍ ثقاليَّةٍ مع أعدادٍ كبيرةٍ من عملياتِ المُحاكاةِ الحاسوبيَّةِ لنماذِجَ رياضيَّةٍ للتَّعدُّس، والتي يمكنُ أن تأخذَ أسابيعَ أو شهورًا لتحليلِ كلِّ عدسة.
ولكن مع استخدامِ الشَّبكاتِ العصبونيَّةِ تمكَّنَ الباحثون من إجراءِ نفسِ التَّحليلِ ولكن في غضونِ ثوانٍ، وقد استخدموا فيها صورًا حقيقيةً من مقرابِ هابل الفضائيِّ وصورَ محاكاةٍ حاسوبيَّة.
ولتدريبِ الشَّبكاتِ العصبيَّةِ على مهمَّتها أدخلَ الباحثونَ قرابةَ نصفِ مليونَ صورةٍ محاكيةٍ للعدساتِ الثِّقاليَّةِ لمدةِ يوم، وبمجرَّدِ تمرينِها تمكَّنَت الشَّبكاتُ من تحليلِ عدساتٍ جديدةٍ مباشرةً وبدقةٍ تُنافِسُ أساليبَ التَّحليلِ التَّقليديَّة، وقد قُدِّمَت النَّتائج في ورقةٍ بحثيَّةٍ مُنفصلةٍ لمجلةِ (The Astrophysical Journal Letters) أوضحَ الفريقُ فيها قدرةَ هذه الشَّبكاتِ على تحديدِ قيمِ الشَّكِّ في تحليلاتِها.
Image: https://www.symmetrymagazine.org/article/neural-networks-meet-space
عيِّنةٍ من الصورِ التي أُدخِلت إلى الشَّبكاتِ لاختبارِ أداءِها في تحليلِ ظاهرةِ التَّعدُّس الثِّقاليّ
إعدادُ الشَّبكاتِ لمستقبلِ الفضاءِ:
إنَّ نجاحَ هذه التَّجرِبةِ يأخذُ الشَّبكاتِ العصبونيَّةِ في المستقبلِ إلى مجالاتٍ أبعدَ بكثيرٍ من استخداماتِها الحاليَّة وقد كانَت تُستخدَم سابقًا في مجالِ التَّصنيفِ فقط؛ أي تحليلِ الصورةِ وتحديدِ إمكانيَّةِ وجودِ عدسةٍ ثقاليَّةٍ أم لا، ولكن أصبحَ بإمكانِ العلماءِ الآن استخدامُ هذه التِّقنيَّةِ لمعرفةِ خصائص العدسةِ وتوزُّعَ الكتلِ في الصُّورِ وغيرِها من المعلومات المهمَّة، وبسرعةٍ كبيرةٍ جدًا وبدقَّةٍ تضاهي التِّقنيَّاتِ التَّقليديَّة.
إنَّ قدرةَ الشَّبكاتِ العصبيَّةِ على إجراءِ عمليَّاتِ تحليلٍ مُعقَّدةٍ لبياناتٍ ضخمةٍ جدًا وبسرعةٍ كبيرةٍ وبأسلوبٍ مؤتمتٍ قد ينقلُ علمَ الفيزياءِ الفلكيَّةِ إلى مستوى أعلى وخصوصًا مع زيادةِ الحاجةِ إلى عملياتِ مسحٍ مستقبليَّةٍ للفضاءِ البعيد، وإنتاجِ بياناتٍ أكثرَ من السَّابقِ ومن ثمَّ زيادةُ المعرفةِ البشريَّةِ بهذا الخصوص.
وخيرُ مثالٍ على هذا المقرابِ المستقبليِّ The Large Synoptic Survey Telescope والذي لا يزالُ قيدَ الإنشاءِ حاليًا، إذ يحتوي على كاميراتٍ بدقةٍ تصلُ إلى 3.2 غيغا بيكسل و سوف يوفِّرُ مشاهدَ مذهلة للكون، فعددُ العدساتِ الثِّقاليَّةِ المُكتَشفَة اليوم لا يتجاوزُ عدَّةَ مئات، وبفضلِ هذا التلسكوبِ قد يصلُ عددُها إلى عشراتِ الأُلوف، ولتحقيقِ هذا الهدفِ سيزوِّدنا المرقابُ بكمياتٍ مهولةٍ من البياناتِ التي لن نستطيعَ تحليلَها واستخلاصَ المعلوماتِ المُهمَّةِ منها دونَ الشَّبكاتِ العصبونيَّة.