مجدداً..الرياضيات تضرب بسيفٍ من حديد
الفيزياء والفلك >>>> النظريات الأساسية في الفيزياء
ناقشَ بعضُ الرياضيّين مفهوماً أساسيّاً يتعلّقُ بدراسةِ الثّقوبِ السّوداء؛ يُجيبُ العملُ عن أحدِ أهمِّ الأسئلةِ التي تُطرحُ ضمنَ أيِّ دراسةٍ تصبُّ في مفهومِ النّسبيّةِ، ومن المحتملِ أنْ تُغيّرَ هذه الإجابةُ نظرتَنا وتفكيرَنا حولَ مفهومِ الزّمكان. المصدر: هنا روابط من مقالاتنا السابقة:
طُرِحَ هذا البحثُ العلميُّ خلالَ الخريفِ الماضي، في محاولةٍ لإثباتِ أنّ المفهومَ الحالي المعتمَدَ في دراسة الثُّقوبِ السّوداءِ هو مفهومٌ خاطئ!
طَرَحَ الفيزيائيُّ (روجر بينروز) مفهومَ "حدسيّةَ الرّقابةِ الكونيّةِ القويّةِ" )the strong cosmic censorship conjecture( سنة 1979. وكما نعلمُ، ولعقودٍ طويلةٍ، سيطرَت نسبيّةُ آينشتاين على حلّ جميعِ المُعضِلاتِ والظّواهرِ واسعةِ النّطاقِ في الكون، ولكن مع تقدّمِ الرياضيات في السّتّينيّات، لاحَظَ العلماءُ أنّ معادلاتِ آينشتاين تترنّحُ وتُظهِرُ تناقضاتٍ عندما تُطبَّقُ على الثُّقوبِ السّوداءِ.
وفقاً للفيزياء التّقليديّة، فإنّ الكونَ قابلٌ للتنبّؤ؛ إذ يُمكِنُنا توقُّعُ المسارِ المستقبليّ لنظامٍ ما، بمعرفةِ وضعِهِ الحالي والقوانينِ الفيزيائيّةِ الخاصّةِ بهِ.
ومن المؤكّدِ أنّ هذه القاعدةَ ستتحقّقُ، سواءٌ كنتَ تستعملُ قوانينَ نيوتن لمعرفةِ موضعِ كرةِ بلياردو، أم معادلاتِ ماكسويل لوصفِ حقلٍ كهرومغناطيسيٍّ، أو نسبيّةَ آينشتاين للتنبّؤ بتطوّرِ شكلِ الزّمكانِ.
لكن بحلولِ السّتّينيّات، وجدَ علماءُ الرياضياتِ سيناريو فيزيائيّاً لمعادلاتِ آينشتاين، أخفَقَ في وصفِ كونٍ قابلٍ للتنبّؤ كما اعتدنا، علماً أنّ هذه المعادلاتِ تشكّلُ نواةَ النّسبيّة العامّة وأساسَها؛ إذ إنّهم لاحظوا ظهورَ خطأٍ ما عندَ محاولةِ تطبيقِ نظريّة تطوّر الزّمكان داخلَ ثُقبٍ أسودَ.
لمحاولةِ شرحِ الفكرة، تخيّل أنّك تسقطُ في ثقبٍ أسودَ، بدايةً ستعبُرُ (خطّ الأُفقِ، أو أُفقَ الحدثِ) وهي النّقطةُ التي لا عودةَ بعدها، ومع ذلكَ فإنّ معادلاتِ آينشتاين ما زالت تعملُ، ولكن مع استمرارِ السُّقوطِ نَحْوَ الدّاخلِ ستصِلُ إلى أفقٍ آخرَ يُعرَفُ باسمِ (أفق كوشي)، وهُنا ستبدَأ الأمور بالخرابِ؛ لأنّ المعادلاتِ سوفَ تُعطي حُلولاً متعَدّدةً، كلٌّ منها يوصِّفُ تكويناً مُختلفاً للزّمكانِ، ولا نستطيعُ معرفةَ التّكوينِ الصّحيحِ منها، الأمر الذي يُعدّ خطيئةً فيزيائيّةً لا تُغتَفَرُ.
ومحاولةً لاستعادةِ خواصِّ نسبيّةِ آينشتاين، اقتَرَحَ (بينروز) مفهوماً يُسمّى مخمَنَةَ الرّقابةِ الكونيّةِ القويّةِ (the strong cosmic censorship conjecture)، التي هي مفهومٌ مبنيٌّ على فرضِ أنّ أفقَ كوشي عبارةٌ عن خيالٍ نَشَأ من فكرةٍ رياضيّةٍ؛ إذ إنّه لا يمكنُ أن يوجَدَ إلّا ضمنَ سيناريو مثاليٍّ يحتوي فيه الكونُ على ثُقبٍ أسودَ دوّارٍ واحدٍ فقط.
وكان سببُ فعلِ بينروز لذلك هو: عدمَ استقرارِ (أفقِ كوشي)؛ لأنّ أيّ موجةٍ ثقاليّةٍ عابرةٍ ستهدِمُه وتُحَوِّلُهُ إلى ما يسمى singularity؛ وهي عبارةٌ عن نُقطَةٍ-أي أُحاديّةُ البُعدِ-مُحاطةٌ بجاذبيّةٍ لا نِهائيّةٍ، وهذا غيرُ مُمكِنٍ في الواقعِ؛ لأنّ كثيراً من الأمواجِ الثّقاليّةِ تسبَحُ في كونِنا.
رد اعتبار أفق كوشي
أثبت (دافيرموس) و(لوك)، عالما الرّياضيّاتِ في جامعةِ ستانفورد، أنّ الوضعَ في أفقِ كوشي ليس بسيطاً، مفنّدِينَ بذلك بيان بينروز الأصليّ "حدسيّةَ الرّقابةِ الكونيّةِ القويّةِ"، ولكنّ بحثَهُم لا يُنكر وجودَ أفقِ كوشي تماماً.
بناءً على طرائقَ ونظريّاتٍ رياضيّةٍ نشرَها العالمُ اليونانيّ (كريستودولو) في العَقدِ الماضي، أظهر دافيرموس ولوك أنّ أفقَ كوشي يمكنَ أن يشكّل في الواقعِ مُتفرّدةً Singularity، ولكنّها ليست متفرّدةً متطرّفةً مثل التي توقّعها بينروز، بل هي أكثر اعتدالاً وأقلّ تطرّفاً. هذا الشّكلُ الأضعفُ من التفرّدِ يُمارِسُ سحباً على نسيجِ الزّمكانِ، لكنَّهُ لا يُفسِدُه، ما يعني أنّ المُسافرينَ الذينَ يعبُرونَ أفقَ كوشي لا تمزِّقُهم قوى المدِّ والجزرِ. إنّهم قد يشعُرونَ بالضّيقِ، لكنّهم لا يتمزّقونَ كما كان يُعتَقَدُ سابقاً.
ولأنّ المتفرّدةَ الّتي تتشكّلُ في أفقِ كوشي هي أكثر اعتدالاً ممّا تُنبِئ به حدسيّةُ الرّقابةِ الكونيّةِ القويّةِ؛ فإنّ نظريّةَ النسبيّةِ العامّةِ لا تُعذرُ على الفورِ من النّظرِ في ما يحدثُ في الدّاخلِ.
يُثبِتُ بحثُ دافرموس ولوك أنّ الزّمكانَ يمتدُّ إلى ما وراءِ أفقِ كوشي، كما يثبتُ أنّهُ من نقطةِ البدايةِ نفسِها يمتدُّ الزّمكانُ بأشكالٍ عديدةٍ، وليس هناكَ من سببٍ وجيهٍ لتفضيلِ أحدِها للآخرِ.
مع ذلك-وهُنا تتجلّى الدّقةُ في عملِهِم-لا تعني هذه الامتداداتُ في الزّمكان بالضّرورةِ أنّ معادلاتِ آينشتاين تصبحُ ضرباً من الجُنونِ ما بعدَ الأفقِ. ومع أنّكَ يمكنُ أن تمدّدَ الزّمكانَ بعدَ أفقِ كوشي، فلا يمكنُ حلّ معادلاتِ آينشتاين، ولكن على وجهِ التّحديدِ يبدو أنّ هذه الأرضيّةَ الوسطى موجودةٌ، ممّا يجعلُ عملَ دافرموس ولوك ممتعاً جداً.