يومٌ لرائد فضاء لكن بلا بذلة فضاء
الطب >>>> مقالات طبية
لنفترض أنك رائد فضاء، لكن ولسببٍ ما وجدت نفسك في الفضاء الخارجي لكن دون بذلة فضاء! ولكم أعزاءنا القراء، إن جاء يومٌ ما وصعدتم إلى الفضاء الخارجي، تذكروا دائماً احضار بذلة الفضاء معكم ونتمنى دائماً السلامة لجميع رواد الفضاء الذين يعرضون نفسهم لمختلف الأخطار بهدف اجراء الابحاث والتطبيقات النافعة لنا.
ما الذي سيحدث لك؟ هل ستموت؟ هل ستفقد الوعي؟ لقد حاولت هوليوود تخمين ما سيحدث بعدّة أفلام وغالباً ما انتهى الأمر برواد الفضاء إلى الانفجار أو التجمد. لكنّ العلم لا يخمن بل يبحث في ضوء التجارب والمشاهدات ويخبرنا بثقةٍ عما يمكن أن نتوقعه وهذا ما سنتناوله الآن..
سنتخيّل معاً رائد فضاءٍ تعيس الحظ، وجد نفسه في الفضاء الخارجيّ دون بذلة، وسنقضي معه هذه اللحظات الأخيرة لندرس تأثير عوامل الفضاء الخارجيّ على جسم الإنسان.
سنبدأ الرحلة مع رائدنا الفضائيّ من اللحظة الأولى لخروجه إلى الفضاء وعندئذٍ هناك احتمالان : الأول، أن يفكّر بذكاءٍ ويقول : "سأحبس أنفاسي فكما أنني في الأرض كنت أخبئ قرشي الأبيض ليومي الأسود، سأخبئ الآن نفسي الأبيض لفضائي الأسود" حسناً، هذه هي الحماقة بعينها – مع احترامنا له – ففي حال فعل ذلك، فإن اختلاف ضغط الهواء في رئتيه عن ضغط الفضاء المنخفض خارجه، سيجعل هواء الرئتين يتمدّد بشكلٍ كبيرٍ، ويشكّل فقاعاتٍ تؤدي إلى أضرارٍ جسيمةٍ على الرئتين وباقي الأعضاء الداخلية كالقلب وغيره مما يسبّب تغيّراتٍ غير قابلةٍ للعكس، أي في حال حدثت فإننا سنرفع القبعة ونترحّم عليه.
لكن سنفترض أنّ رائدنا التخيليّ ذكيٌّ كفايةً لكي لا يقع في هذا الخطأ كي نتقدّم إلى الأمام في الرحلة، والتي لن تكون رحلةً طويلةً بل سنرافقه في الخمس عشرة ثانيةٍ القادمة فقط ! فبعد بضعة ثوانٍ سيصاب بشللٍ في الحركة يليه ارتعاشٌ غير إرادي ومن ثم شللٌ مرةً أخرى. وفي غضون الـ 15 ثانية التي تحدثنا عنها والتي ستلي خروجه إلى الفضاء والتي عانى منها الأمرّين – الشلل والارتعاش- سيصل دمٌ إلى دماغه، لكنه دمٌ بلا أوكسجين! نعم لقد قامت أنسجة الجسم باستهلاك كلّ كمية الأوكسجين الموجودة في جسمه في 15 ثانية أو أقل وبما أن دماغه بلا أوكسجين فسوف يفقد الوعي.
ولكي نحُلَّ مشكلة نقص الأوكسجين التي ستنهي متابعتنا لنهائية رائد الفضاء نهايةً سريعة، سنتخيّل أنه محظوظٌ لدرجة أن يحدث معه شيءٌ غير منطقيٍّ ولكنّه سيفيد في استكمال روايتنا الخيالية، كأن تترك سحابةٌ هوائيةٌ الغلاف الجوي للأرض وتأتي لتنقذه، حسناً، بفرض أن هذا قد يحدث – وهو ما لن يحدث- فإن الكتلة الهوائية ستحتوي على مايكفيه من الاوكسيجين للحفاظ على وعيه، ولكنّها بالمقابل ستكون ذات ضغطٍ منخفضٍ جداً، وهذا لن يكون مفيداً لرئتيه، ولذلك تقوم بذلة الفضاء عادةً –والتي لا يملكها صديقنا- بضخ الأوكسجين النقيّ وعزل جسد رواد الفضاء عن الضغط الخارجيّ لتفادي هذه المشكلة، يبدو أن هذه المحنة بحاجةٍ إلى ما هو أكثر من الحظ!
وسنتركك الآن أيها الضائع بلا بذلةٍ في الفضاء لنشرح لأعزائنا القراء مبدأً فيزيائياً بسيطاً لفهم محنةٍ أخرى ستواجهها بعد قليل، يقول المبدأ أنّه "كلما انخفض الضغط، انخفضت درجة غليان السائل". الآن نعود لرائدنا السابح في الفضاء بلا بذلة ولنتذكر أن الضغط في الفضاء الخارجيّ يقترب من الصفر وبالتالي فالدرجة اللازمة لغليان سوائل جسمه ستنخفض كثيراً، ستبدأ سوائل جسمه بالتبخّر وخاصّةً اللعاب والدموع والسوائل الأنفيّة، ونتيجة لذلك سيفقد كميةً كبيرةً نسبياً من الحرارة وسيشعر بما يشبه التجمد في مناطق كالأنف والفم (لكنه لن يتجمد). ولكن يطرح السؤال نفسه، أين ستذهب هذه السوائل المتبخرة؟ سيمتلأ جسمه بها وهي تتبخّر بظاهرةٍ تشبه الغليان، وسيتضاعف حجمه مرتين فالجلد لن يسمح للسوائل بالخروج.
وماذا بالنسبة للدم، هل سيغلي هو الآخر؟
لا، وذلك لأن درجة غليانه في ضغطٍ قريبٍ من الصفر تنخفض إلى 46 درجة مئوية بينما درجة حرارة الجسم 37 فقط، وبالتالي سيبقى بالحالة السائلة إلى أن يتوقف القلب عن الخفقان – وهنا سيعاني صديقنا معضلة أكبر من تبخر السوائل !-
حتى هذه اللحظة لم نبيّن بعد إذا كانت أفلام هوليوود التي صورت لنا رجال الفضاء يتجمدون دون بذلة صحيحةً علمياً أم خاطئةً، وإليكم الإجابة إذاً :
إن درجة حرارة المواد في الفضاء منخفضةٌ جداً فهل نتجمد فوراً كما اعتادت هوليوود أن تعرض لنا في مشاهد رواد الفضاء؟ لنتذكر معاً أنّ تغير درجة حرارة أيّ جسم – كجسم الانسان في حالتنا – نتيجة تماسه مع جسمٍ آخر يتعلق بنقطتين: حرارة كلا الجسمين، وكتلة كل جسم. فهل لك أن تخبرني عن كتلة المادة المحيطة برائد الفضاء في الفراغ؟ إنها تكاد تكون معدومة، وبالتالي فتأثر جسمه بهذه الحرارة المنخفضة سيكون بطيئاً جداً.. بالتأكيد سيتعرّض للحرارة أو البرودة وفقاً لقربه من النجوم (كالشمس مثلاً) ولكنّ الحرارة المنخفضة لن تكون مشكلةً فوريةً بالنسبة له فالفضاء عازلٌ جيدٌ للحرارة. لن يتجمد صديقنا فوراً، -أخيراً خبرٌ سعيدٌ له بعد مجموعة الأخبار التعيسة، أليس كذلك؟!-
نكمل إذاً مع رائدنا الفضائي المحظوظ الذي –سنفترض جدلاً- أنه لم يمت بعد: هل سيكون بمواجهة نجمٍ ما أم محجوباً عنه بجسمٍ عاتم؟ إذا واجه النجم فبالتأكيد إنّ الأشعة فوق البنفسجية الصادرة عن هذا النجم ستسبّب له بحروقٍ شمسية سيئة إضافةً إلى تشكل الخلايا السرطانية في أنسجة جسمه حتى ولو كان التعرض لفترةٍ وجيزة، فالفضاء الخارجي على خلاف كوكب الأرض لا يحوي غلافاً جوياً يمنع دخول الأشعة فوق البنفسجية بكمياتٍ كبيرة مما يسبّب نسبةً مرتفعة من تطفير الخلايا.
بقي هناك شيءٌ أخير نريد أن نخبركم به، فبدون ارتباط رائد الفضاء بسفينته الفضائية أو أيّ نقطة ارتكاز، وبدون حيازته لأجهزة توجيه حركة نفاثة، سيبقى سابحاً في الفضاء وكأنّه مشلول، فهو لا يملك نقطة ارتكازٍ ليدفع جسمه باتجاهٍ معين، وبهذا فسيكون معرضاً للموت –بعد هذه الرحلة التخيليّة الملحمية- بصدمةٍ من الكواكب السيارة أو المذنبات أو أصغر أجرامٍ فضائية مسافرةٍ بسرعة هائلة! و-لسوء حظه- حتى لو شاهدها تقترب منه فلن يملك أن يبتعد عن طريقها.
إذاً لو فرضنا نجاته من كلّ تلك الصعوبات، كيف ستكون نهايته الحتميّة؟
الأوكسجين، نعم ففقدانه هو أكبر مشكلة سيواجهها على الإطلاق، وإذا كان مدرباً على هكذا حالات فإنه قد يصمد لدقيقتين على أكبر تقدير ومن ثم... سيموت للأسف وبكلّ بساطة، ويبقى جسمه سابحاً في الفضاء بقية اليوم! ونعتذر لكلّ شخصٍ كان ينتظر نهاية أكثر دراميةً أو تراجيدية !
ولكم أعزاءنا القراء، إن جاء يومٌ ما وصعدتم إلى الفضاء الخارجي، تذكروا دائماً احضار بذلة الفضاء معكم ونتمنى دائماً السلامة لجميع رواد الفضاء الذين يعرضون نفسهم لمختلف الأخطار بهدف اجراء الابحاث والتطبيقات النافعة لنا.
ما الفائدة؟
ولكن ما هي الفائدة من هكذا دراسة؟ قبل أن نتحدث عن الفائدة سنحدثك عن الكيفية التي استطاع بها العلماء دراسة هذه الأحداث، إنها ما سيحدث للطيارين في الأعالي المرتفعة جداً والتي تملك ظروفاً شبيهةً بالفضاء، وبالمثل فإن هذه الدراسة تمكننا من مساعدة هؤلاء الطيارين في مهامهم إذا أصابتهم مشكلةٌ على ارتفاعٍ سحيق حيث تكون كمية الأوكسجين قليلةً جداً، كما تساعدنا في دراسة حالات البشر في الحروب الكيميائية أو البيولوجية حيث يكون الأوكسجين شبه معدوم.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا
5- هنا
6- هنا
7- هنا
8- هنا