الكشف عن الكذب علمياً
الطب >>>> علوم عصبية وطب نفسي
لابدّ وأنّ معظمنا قد كذب في يومٍ من الأيام، وأنا هنا لا أقصد الإساءة، فربّما كان الكذب بغاية إخفاء الحوادث السيّئة عن الآخرين وبالتالي تجنيبهم المشاعر السيئة، وربّما كان بقصد التغلب على ظروف قاهرة. ولكن ربّما، أقول ربّما، كان بنوايا غير حسنة ......
لكن، و بغض النظر عن الدافع إلى الكذب، فإنّ العلم قد حاول فهم هذا الموضوع، حاول أن يعرف العمليات الحيوية التي تحدث عندما يغير الانسان الحقائق فيكذب، أي حاول فهم عملية الكذب و التي سيؤدّي فهمها في نهاية المطاف إلى كشف الكذب .
ولكي يستطيع العلماء فهم الكذب، فإنّهم – كما كانوا دائماً - يلجؤون إلى التجربة، وفي هذه المرّة ستعتمد التجربة على متطوّعين يخوضون عمليةً شهيرة بسيطة هي عملية "إنكار السرقة" وفي هذه التجربة يُطلب من المتطوّعون أخذ أحد شيئين – خاتمٌ أو ساعةٌ على سبيل المثال لا الحصر –، كما يُطلب منه إنكار أخذه أيّاً من الشيئين، وهو في هذا كاذبٌ في مرّة (كونه أخذ أحد الشيئين) و صادقٌ في أخرى (كونه لم يأخذ كلا الشيئين).
لكن مهلاً، أين العلماء في هذه القصة؟ حسناً، لن يتركوا المتطوّعين يؤدّون هذه التجربة دون تدخّل بل سيُثبّتون على السطح الخارجي من رؤوس المتطوّعين (وبالتحديد جلد أعلى الرأس) أقطابَ إلكترود تقيس أيّ تغيّرٍ في الجهد الكهربائي في المنطقة السطحيّة للرأس، وبالتالي يمكنه بطبيعة الحال إعطاء فكرة عن السيّالات العصبيّة التي تنتشر أثناء عمليّتَي الكذب والصدق، وبذلك فإنّ العلماء يريدون التعرّف على مناطق في قشرة الدماغ مسؤولة عن الصدق والكذب. لكن، وبسبب أنّ هذه الطريقة تقيس النشاط الدماغي في مناطق واسعةٍ منه فإنّنا لا نتوقّع التعرّف على منطقةٍ محددةٍ لعمليّة الكذب .
ولفهم هذه العمليّة بصورةٍ أوضح، فقد استعمل العلماء تقنية fMRI (التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي) في محاولةٍ منهم لتحديدٍ أدق للمكان المسؤول عن الكذب، حيث يتمّ وضع المتطوّع في جهازٍ ماسح و تُطرح عليه مجموعةٌ من الأسئلة، فيقوم هذا الجهاز بقياس التغيّرات في التدفّق الدموي إلى الدماغ والتي هي بطبيعة الحال نتيجة التغيّرات في النشاط العصبي في الدماغ، و باستخدام هذه الطريقة أُتيح للعلماء أن يحدّدوا مناطق معينةً في أدمغتنا تكون نشطةً في حالة الكذب ..... مثير، أليس كذلك ؟!!
فهل هناك حقاً مناطق خاصّة للكذب في الدماغ؟
هناك الكثير من المناطق التي تعمل في أدمغتنا أثناء الكذب، ورغم هذه الإشكالية، فإنّ العلماء لم يتوانوا عن محاولة معرفة أهم المناطق المسؤولة عن الكذب و كان لهم ما أرادوا باستخدام تقنية fMRI حيث استطاعوا تحديد أهم المسؤولين عن هذه العمليّة، وهي منطقة "القشرة أمام الجبهيّة prefrontal cortex" الموجودة خلف مقدّمة الرأس مباشرةً، وهي في الواقع مسؤولةٌ عن عمليات تشكيل الأفكار وإدارة الأفعال من أجل تحقيق الأهداف، وهي بذلك المشرف على عمليات التخطيط وعمليات الانتباه وحل المشاكل، فلا عجب إذاً أن تكون مسؤولةً عن الكذب.
وللعلم، فعمليّة الكذب تتضمّن جهداً أكبر من عمليّة الصدق – كون الكاذب سيُخفي حقيقة و يختلق شيئاً جديداً – و هذا بالتأكيد سينعكس على النشاط العصبي زيادةً. كما وجدت أبحاثٌ أخرى أنّ الأشخاص يأخذون وقتاً أطول للاستجابة عند الكذب.
إنّ منطقة "القشرة أمام الجبهية" ليست مسؤولةً عن الكذب فقط بل تتنشّط جرّاء القيام بالكثير من النشاطات اليوميّة كالطبخ ولعب الشطرنج وما إلى ذلك، وبالتالي ليس بإمكاننا القول بأنها منطقةٌ مخصّصةٌ لعمليّة الكذب.
لكن ورغم عدم وجود مناطق محددةٍ للكذب، فإنّ تقنية الـfMRI قد أعطت نتائج صحيحة بنسبة %85 لأشخاصٍ متطوّعين حيث يتمّ سؤالهم بضعة أسئلة ويُطلب منهم أن يكذبوا في بعضها ويصدقوا في البعض الآخر. و قد أعطت تقنيات كشف الكذب الأخرى المعتمدة على تغيّر ناقليّة خلايا النسيج الجلدي للسيّالات العصبيّة وتغيّرات تدفّق الدم ومعدّل التنفّس نتائج مشابهة لتقنية fMRI.
ويبدو أنّ هذه النتائج المشجّعة قد حذت بشركتين لتسويق تقنية fMRI بشكلٍ تجاري وكذلك فعلت بعض المحاكم حيث اعتبرت هذه التقنية دليلاً في مرافعاتها لكشف الكذب.
إلّا أنّ هذه النتائج ليست كافية برأي علماء آخرين، فإنّ هناك اختلافاً كبيراً بين شروط الكذب في التجربة وبين الكذب في الحياة الواقعية، حيث قد يترافق الكذب بأمورٍ نفسيّةٍ وعاطفيًة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك عدّة إجراءات مضادّة من الممكن استعمالها، كتغيير معدّل التنفس أو القيام ببعض الحركات البسيطة، مما يقلّل من دقّة هذا الاختبار بشكلٍ كبير.
بالتالي فالوقت مازال مبكّراً لاستخدام هذه التقنيات في الحياة العملية بعد.
حسناً، وبعيداً عن أبحاث العلماء، تخيّلوا أن تتطوّر تقنيات الكذب إلى الحدّ الذي يسمح بتوافرها بين أيدي الأشخاص العاديين، كأن تصبح تطبيقاً يمكن تنصيبه على أجهزة الهواتف الذكية، عندها، عندما تريد أن تجامل شخصاً ما، سيعرف أنّك كاذب – حاشا القارئين – وعندما تريد أن تلفّ وتدور لتُبعد عن شخصٍ ما خبراً سيّئاً، سيعرفه على الفور، وعندما يسأل الأساتذة "هل فهمتم الدرس؟" لن يكون أمام التلاميذ سوى الإقرار بالحقيقة المرّة "لا، لم نفهم الدرس يا أستاذ" وعندما تقول لقريبك: أنا مشتاقٌ لك" سيعمل تطبيق كشف الكذب لديه، وعندها ستحمرّ وجنتاك خجلاً، و و و ......
وأنتم، ما هي الأمور التي تكذبون بها ولا تريدون أن يتمّ فضحكم و ما هو المقدار الذي تتمنّون وصول تقنية كشف الكذب إليه من التطوّر؟!!
المصدر: هنا