حمام الدار لا يغيب وأفعى الدار لا تخون
كتاب >>>> روايات ومقالات
وبالإضافة إلى كثير من الرموز الدلالية في الرواية، فإنَّ السنعوسي يخوض طريقةً جديدة في السرد الروائي نسبةً إلى أعماله القديمة، فما من شيء واضح ومباشر مثل روايته ساق البامبو هنا; الحاصلة على جائزة البوكر لعام 2013، أو عمله الرائع فئران أمي حصة هنا ، وقد يُربك هذا الأمر القارئ في البداية، وفي الفصول الأولى خاصَّة؛ ولكن، سرعان ما تبدأ الصورة تتوضَّح لتأخذ تلك الأحجية شكلها الكامل، إضافةً إلى أنَّ التفنُّن اللغوي لدى السنعوسي بدا واضحًا ومُلهمًا في روايته هذه؛ إذ إنَّه عمل على إنشاء لغةٍ ساحرة ومُتقنة قد تزيد من جرعة الاستمتاع بتفاصيلها المُحكمة، وتُقسم هذه الرواية إلى قسمين أساسًا:
العهد القديم، على لسان عِرزال:
تبدأ الرواية مع صباحٍ كئيب يعيشه كاتب متمرِّس مع زوجته، ويرافق ذلك الصباح ملحمةٌ بين العجز عن الكتابة والضجر من نفسه حتى ينتهي الحالُ ببدأ مشروع روايته في نص سمَّاه "نصٌّ لقيط"، ليروي لنا على لسان أولى شخصياته، وهو عرزال ابن أزرق؛ ابن والدِه القاسي والمُتنمِّر عليه، ويتيم أُمِّه التي كانت تُنشد له في كل صباح، وبداية حكاية زواجلِ والده السِّتِّ التي لا ترحل مهما طال غيابُها، ويصف بصيرة الهَرِمة الصمَّاء والعمياء التي بقيت من بين عبيد الدار القدماء المتبقين الذين طردهم والده الظالم من الدار، وحتى تلك الأفعى تُرابية اللون المرقطة كانت من أهل الدار الذين لا يخونون، ويروي حكاية قطنة أيضًا؛ الماعز التي تحبُّ التيس الغريب، وتذرفُ الدموع مالحة تارةً وعذبة تارةً أخرى.
وعلى ما يبدو أنَّ السنعوسي يسعى جاهدًا إلى وضع صورة مجازية ودلالية لكلٍّ من الحمام الزاجل وبصيرة والأفعى وقطنة، وحتى عرزال ابن أزرق يضمُّ المعاني المخفيَّة عن رؤية القارئ في الفصول الأولى، وما يزيد جرعة التساؤل والتدقيق بين الكلمات هو الفصول الآتية التي لا تسير في الزمن نفسه؛ بل يكون عرزال فيها عجوزًا هرمًا وحزينًا ووحيدًا في صباحاته الهادئة إلى حين ظهور فيروز، تلك الحمامة التي تحطُّ على شبَّاك عرزال، وقد سمَّاها فيروز ليمدَّ شعور الإلفة بينهم.
ويوثِّق السنعوسي طريقةَ السرد الدلالية عن طريق أسماء فصوله القصيرة أيضًا؛ مثل "منحة العقل ومحنته، ومناوشة شك ليقين، وانتظار أوبة الثُّلث، وفاقد الشيء قد يُعطيه"، ويقدِّم إلى القارئ عن طريق هذه العناوين العريضة المُحمَّلة بالمعنى صورةً مبدئية عن دلالات العمل تمهيدًا للدخول إلى العهد الجديد من الرواية.
ويُقسِّم المؤلف الضَّجِر روايته المُتخيَّلة إلى مجموعة من الصباحات المتوالية، ونكتشف مع كل صباح شيئًا من تاريخ أهل الدار وحاضرهم؛ ولكن، يبدو أنَّ الذكريات تتوالى بأزمنة وصور مختلفة ممَّا دعا عرزال إلى رؤية زينة ورحَّال من جديد على شكل بيضتين تركتهم الحمامة فيروز، فغدا كلاهما بديلًا لها يهتم بهما، كما كان يهتم في طفولته بحمامتين تحملان الاسمين نفسهما، وتتصرفان مثل المواطنين المُهجَّرين، أو أجيال الوطن الواحد المحكومة بحُكم القدر، ولربَّما هذا يُفسِّر لِمَا كان الحمام يحلِّق على الحدود في إحدى الصحاري القاحلة، وكما كان عرزال محتارًا في طفولته بين مقولة والده أزرق "قد رحلوا"، ومقولة العجوز بصيرة "حمام الدار لا يغيب"، بَقِي في حيرته ذاتها بعد أن أصبح كهلًا.
وللون الأزرق في الرواية طابعٌ خاص، هو اسم والد عرزال ولون السماء التي تبتلع الحمام إن رحل، وهو لون الغياب والفقد؛ إذ يقول "ابتلعتهما الزرقة، ولم يَعُد يراهما، أخ يلوِّح بيده، ويصيح بهما: رحَّال.. زينة! ثمَّ أطبق أسنانه على طرف ثوبه وراح يركض كالمجنون"، ثمَّ يقول: "هذا الكابوس الأزرق يجيء بتفاصيل جديدة يومًا تلو الآخر!" فلا تمضي بضعُ صفحات حتى يتشكَّل عالمٌ من الدلالات التي تحيي كل شيء، وتعطي لكل الكائنات طابعًا واعيًا وكأنَّها عالمٌ حقيقي يسير تجاه اكتشاف نفسه.
وتقتحم شخصية المؤلِّف المُصاب بالضجر لعجزه عن الكتابة مسير الأحداث وطبائع الشخصيات مجددًّا وتُربط الصفحات الأولى من الرواية عن طريقها مع نصفها الثاني، فتكون شخصية المؤلِّف طابعًا مُتفردًا يتصارع مع بنات أفكاره التي ابتكرها في مسير كتابته فيغيِّر بعضها ويكتشف حقيقة أخرى، وهذه المحاولة من سعود السعنوسي بأن تكون داخل روايته شخصية مؤلِّف ضَجِر وعاجز ليُحاكي شخصياته ويتعاطف مع قطنة ويحارب إرادة عِرزال (شخصيته المُتخيَّلة)، بدا فيها وكأنَّه يروي لنا صراع الكُتَّاب مع ذاتهم حتى ينجزوا أعمالهم الأدبية، وشعورهم بالتقصير تجاه أنفسهم إن لم يزرهم الإلهام ولم تنبت أفكارهم لتُطبَع على الورق لتكون عملًا يحفظ روحَ المؤلِّف بين دفتي الكتاب.
ونستمع هنا كوننا قرَّاء إلى صوت المؤلِّف وهو يحاور شخصياته ويعاتبها في سراديب خياله، إضافةً إلى حوار الشخصيات مع بعضها وهم يصفون مؤلِّفهم بالسقف الأعلى، وكأنَّهم يتحدثون عن الآلهة، وإن تحدَّثوا عن الدرج السفلي الذي يُرعبهم وكأنَّهم يصفون الجحيم، وهذا ما يجعل العمل يمرُّ بسريالية غريبة وممتعة؛ تحمل بين طيَّاتها روح الكتابة والتأليف، فتضيف لمن يسكن بين الأوراق روحًا ووعيًا يُحدِّثنا ويعلن التحدي مع السقف الأعلى والتمرُّد على مخطوطاته؛ ممَّا يعطي صورةً سحرية عن دلالات الوهم وحرية الإرادة والخضوع، ومن ثمَّ الشك والتمرُّد من قِبَل شخصيات تُشارك مؤلِّفها كتابةَ مصائرها في ساعة تأمُّل.
العهد الجديد، كوابيس منوال ابن أزرق:
يبدأ السعنوسي قسمه الأخير من الرواية بنصٍّ نسيبٍ هذه المرة، وليسَ لقيطًا مثل نصِّه الأول، وهذا ما يتقدَّم بنا تجاه صورة أكثر كمالًا عن أحجية ابن أزرق ليحمل منوال ابن أزرق دفَّة التساؤل في عهده الجديد، ومع أنَّ شخصية منوال بعيدة عن عِرزال ولكنَّ الأحداث تتشابه في عهدهما إلى حدٍّ بعيد، وتحمل العناوين العريضة نفسها للأقسام الأولى، ولكنَّها تُروى بصورة مختلفة على لسان منوال ابن أزرق، فمن زينة ورحَّال؟ ومن هو الأزرق؟ ومن قطنة؟ وهل يغيب حمام الدار ولا تخون الأفعى؟ وكل ذلك مع السعي إلى حلِّ الأحجية.
وبالإضافة إلى اللوحات العشرة الكامنة في صفحات الرواية، كانت هناك صورة الغلاف للفنانة التشكيلية الكويتية مشاعل الفيصل، والتي حققت فيها انسجامًا بين اللون الرمادي والأزرق لجسدٍ ذي وجهين يشبهان بعضهما تمامًا، وكأنَّهما منوال وأزرق، ودكَّة النافذة حيث كانت تجلس الحمامة فيروز خلفهما؛ ممَّا يجعل من هذا العمل قطعةً أدبية وفنية مُتكاملة ونوعية وفلسفية في جوهرها، وعلى الرغم من صعوبة وضع تفاسير عامة للعمل ولكنَّه يبقى مثل المرآة، ليجد كل قارئ شيئًا منه بين سراديب الكلمات ويصيغ تفسيراته الخاصة.
"وحده السؤال منحة العقل ومِحنته، والإيمان هو أن تعلِّق أسئلتك على حبال الغيب، وأن تجمِّد عقلك، وأن تعقد صفقةً مع لا شيء؛ لأن لا سبيل إلا انتظار غدٍ قد يجيء بما تريد أو لا يجيء".
معلومات الكتاب
اسم الكتاب: حمام الدار، أحجية ابن أزرق
اسم المؤلف: سعود السنعوسي
نُشر عبر: الدار العربية للعلوم، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى 2017
عدد الصفحات: 184