دور الوراثة في السلوك الجنسي المثلي؛ كيف تفسّره دراسةٌ جديدة؟
التوعية الجنسية >>>> الحياة والحقوق الجنسية والجندرية
لطالما اعتقد العلماء أن مورثات شخص ما تؤثر في ميولهم الجنسية، وقد أظهرت الأبحاث من تسعينيات القرن الماضي تشابهَ الميول الجنسية لدى التوائم المتماثلة أكثر منه لدى التوائم غير المتماثلة أو الإخوة المتبنَّين. وربطت بعض الدراسات الموقع Χq23 بالميول الجنسية عند الذكور البيولوجيين، إلَّا أنَّ الأبحاث اللاحقة شكَّكت في هذه النتائج، وكانت قلة حجم العينة المدروسة في هذه الدراسات سببًا أساسيًّا في إعاقة الكشف عن متغيرات عدة مرتبطة بالميول الجنسية.
في أحدث الدراسات عن الأساس الوراثي للجنسانية وأكبرها حجمًا؛ كُشِفت خمسة مواقع في الجينوم البشري مرتبطة بالسلوك الجنسي المثلي، ولكن لا يمكن الاعتماد على أي من هذه الواسمات في التنبؤ بجنسانية الشخص.
تؤكد هذه الدراسة التي ضمت (500,000) شخص نتائجَ الدراسات الأصغر التي سبقتها، والتي خلصت إلى أن الميول الجنسي له مركِّب وراثي (عامل مشارك) ولكن لا يوجد لمورثة واحدة تأثيرٌ مباشر على السلوكيات الجنسية. وتوصَّل الباحثون في هذه الدراسة إلى أنَّ 25% من السلوكيات الجنسية يمكن تفسيرها بالوراثة في حين تؤدّي العوامل البيئية والثقافية الدورَ الأكبر في تفسيرها، على نحو مشابه أيضًا للدراسات السابقة.
هل تمثل الدراسةُ المجتمعَ البشري كلَّه؟
على الرغم من قوة الدراسة ودعمها من قبل شخصياتٍ أخرى في المجتمع العلمي، فإنَّ إحدى المشكلات التي تحدُّ من تعميم هذه الدراسة هي قلة تمثيلها لمختلف الأعراق والأعمار، إذ تراوحت أعمار المشاركين الذين قدموا معلوماتهم الصحية والمورثية للدراسة بين الـ 40 والـ 70 بمتوسط أعمار بلغ 51 سنةً، وكان أغلبهم من العرق الأبيض. وإضافة إلى ذلك؛ استُبعِد الأشخاصُ الذين لا تتوافق هُويتهم الجنسية مع جنسهم البيولوجي، وبذلك لم يُمثَّلِ الأشخاصُ متغايرو الهوية الجنسية والأشخاصُ الذين لا يتّبعون أيًّا من جنسَي الذكورة والأنوثة في هذه الدراسة.
هل درس الباحثون السلوك الجنسي المثلي أم الميل الجنسي المثلي؟
درس الباحثون السلوك المثلي، الذي يعرف بأنَّه ممارسة الجنس ولو مرةً واحدةً مع شخص من الجنس نفسه؛ وهو يرتبط بالميل والهوية المثليَّين ولكنّه ليس مماثلًا لهما، إذ تضمنت مجموعة الأشخاص الذين أظهروا السلوك المثلي جنسيًّا رجالًا ونساء من ميول مثلية وثنائية وشاملة وحتى غيرية، لكنهم مارسوا الجنس مع شخص مماثل بالجنس مرةً واحدة أو أكثر أيًّا كان الدافع لذلك؛ ممَّا يعني أنَّ هذه الدراسة ما تزال قاصرة عن اكتشاف التعقيد الغني في الهوية والميول الجنسيين نظرًا إلى الطريقة التي أُنجِزت فيها هيكلة البيانات، ونحتاج إلى مقاربات دقيقة في ربط الوراثة بمقاييس أفضل للهوية والسلوك ليشمل البحثُ التنوعَ الكاملَ للجنسانية والهوية والتجربة الإنسانية.
ماذا فعل الباحثون في هذه الدراسة؟
درس الباحثون في الدراسة الأخيرة الارتباطَ على نطاق الجينوم للبحث عن تنوعات النكليوتيد الفردي (SNP)…
حسنًا؛ ماذا يعني هذا؟
يعني دراسةَ الجينوم البشري لكلّ الأشخاص المشاركين، وفي حال اشترك مجموعة من الأشخاص الذين تجمعهم صفة معينة بموقع نكليوتيدي متماثل (SNP) فهناك احتمال عالٍ بأنَّ هذا الموقع له علاقة بهذه الصفة.
قسم الباحثون المشاركين في الدراسة إلى مجموعتَين؛ تضمَّنت الأولى الأشخاص الذين سبق لهم أن مارسوا الجنس مع شخص من الجنس نفسه، في حين تضمنت الأخرى من لم يسبق لهم ذلك. وأجروا دراستَين تحليليَّتين؛ تضمنت الأولى تقييم أكثر من مليون تنوع نكليوتيدي فردي (SNP)، ودرسوا فيما إذا كان للأشخاص الذين اشتركوا بأكثر من (SNP) سلوكيات جنسية متشابهة، ووجدوا أنَّه يمكن للوراثة أن تفسر 8-25% من التغاير في السلوك الجنسي، أما الدراسة الثانية فقد هدفت إلى الكشف عن (SNP) التي ارتبطت بالسلوكيات الجنسية المثلية، ووجدوا (5) منها كان بإمكانها أن تفسّر مجتمعةً أقلَّ من 1% من التغاير في السلوك الجنسي.
ما النتائج؟ وما الذي يمكن فهمه من هذه الدراسة؟
1- توحي النتائج بأنَّ هناك كثيرًا من المورثات التي يمكن أن تؤثر في السلوك الجنسي، التي يمكن أن يساعد في الكشف عنها دراساتٌ بأحجام عيّنة أكبر من ذلك. ويجب الانتباه إلى أنَّ التنوعات النكليوتيدية الفردية الخمسة المكتشفة لا يمكن أن تتنبأ بالتفضيلات الجنسية عند أي فرد، لأنَّه لا يوجد لمورثة واحدة تأثير كبير في السلوكيات الجنسية. وإضافة إلى ذلك؛ من غير المعروف حتَّى الآن ما يمكن أن تؤدي إليه التغيرات الوراثية في هذه المواقع الخمسة المرتبطة مع السلوك الجنسي المثلي، إذ تقع إحداها بقرب مورثة مرتبطة بالشم، الأمر الذي يعد مثيرًا للاهتمام، إذ من المعروفِ علاقةُ الشم بالانجذاب الجنسي، لكن من غير المعروف ارتباطه بالسلوك الجنسي، مما يشكل نقطة بداية لأبحاث لاحقة. وإضافةً إلى ذلك؛ ترافق موقعٌ آخر من هذه المواقع النكليوتيدية مع الصلع ذي النمط الذكوري المتأثر بمستويات الهرمونات الجنسية، مما يوحي بارتباط هذه الهرمونات مع بيولوجيا السلوك الجنسي المثلي أيضًا.
2- وجد الباحثون في هذه الدراسة أيضًا أنَّ التأثيرات الوراثية التي تسهم في احتمال أن يمر شخص بتجربة جنسية مثلية مختلفةٌ إلى حد كبير عن التأثيرات الوراثية التي تتحكم بكون الشخص ينجذب فقط إلى الجنس نفسه أو ينجذب على نحو أكبر إلى الأشخاص من الجنس الآخر. وتوحي الوراثة -مع صدور هذه النتائج- بأنَّ هناك فرطًا في تبسيط مسألة الميول الجنسية حين نعتقد أنَّه كلما زاد انجذاب الشخص لأشخاص من الجنس نفسه انخفض انجذابهم للأشخاص من الجنس الآخر، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في المقاييس ذات الاستمرارية الأحادية البعد مثل سلم كينزي (Kinsey Scale).
3- اكتُشفت واسمات وراثية تؤثر في السلوك الجنسي المثلي عند الذكور والإناث بنسبة 40% إضافة إلى واسمات مخصصة لكل جنس بنسبة 60% منها. وقد يعكس ذلك الاختلافاتِ في بيولوجيا السلوك الجنسي المثلي عند الذكور والإناث أو قد يكون نتيجة للأطر الجندرية والمجتمعية للتعبير عن الجنسانية المختلفة بين الذكور والإناث. وعلى كل حال؛ تبقى هذه الموجودة مثيرةً للاهتمام نظرًا إلى الارتفاع في نسبة التراكب الوراثي بين الذكور والإناث لمعظم الصفات عادةً.
4- تتراكب المورثات التي تؤدّي دورًا في السلوك الجنسي المثلي جزئيًّا مع تلك التي تتدخل في صفات أخرى، متضمّنةً سلوكياتِ حب التجربة وحب المغامرة، إضافة إلى بعض السلوكيات المرتبطة بالصحة كالتدخين وتعاطي القنَّب وإلى اختطار للإصابة بأمراض نفسية معينة (الفصام، الاضطراب ثنائي القطب، والاكتئاب الرئيسي). وعلى الرغم من كون التراكب الموجود بين السلوك الجنسي والسمات الشخصية مثيرًا للاهتمام وجديرًا بالدراسة؛ فإنَّ الحذرَ واجب فيما يتعلق بتفسير هذه النتائج، إذ إنَّ البيئة الاجتماعية لا بد من أن تكون السبب وراء التراكب الذي نشاهده. فالاضطهادُ الذي قد يتعرض له أحد أفراد مجتمع الميم (LGBTQ) بناءً على ميولهم وسلوكياتهم الجنسية يمكن أن يرفع خطر إصابتهم بالاكتئاب، وهذا ما يبدو بأنه ارتباط وراثي هو في الحقيقة نتاجٌ بيئي.
هل خرجت الدراسة بنتيجةِ أنَّ المثلية مرضٌ أو أنها تنتج عن عامل مرضي؟
في الحقيقة لا.
هل اقترحت الدراسة أنَّ المثلية صفةٌ تحتاج علاجًا أو يمكن التخلص منها؟
في الحقيقة لا أيضًا.
وهل خرجت بنتيجة تلغي تدخل الوراثة فيها؟
أبدًا، بل زادت من احتمالية وجود مواقع وراثية إضافية تتدخل على نحو مشترك مع العوامل البيئية في ظهور السلوك المثلي.
لا تزال الجنسانية البشرية بمختلف محاورها قيد الدراسة تحت عدسة العلم، ولا تزال العديد من الأسئلة بحاجة إلى إجابة منطقية واضحة. وقد لا تعجبنا الإجاباتُ التّي يقدمها العلم دائمًا ولا تتفق مع رؤيتنا ومعتقداتنا الشخصية، لكنَّها تقدم أكثر الرؤى حقيقيَّةً عن العالم المحيط بنا والعالم الكامن بداخلنا. فهل يوجد ما يمكن وصفه بغير الطبيعي في حال اقتضت الطبيعة وجوده؟
في انتظار قراءتكم لنتائجِ الدراسة وتحليلِكم الشخصي لها بعد الاطلاع على المصادر.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا