مراجعة رواية (فتاة القطار): امرأةٌ عصَفت بها رياح الغيرة والفضول
كتاب >>>> روايات ومقالات
وفي العام ذاته غَشِيَ كثيرٌ من الكتَّاب أسفٌ طارئ ونكدٌ بعدما أزاحت هذه الكاتبة الشابة والمغمورة كتبهم عن عروشها وسيطرت روايتها (فتاة القطار) على قمة قائمة أكثر الكتب مبيعًا في إنجلترا وأميركا أسابيع متصلة، ونالت بها حظوةً وجوائز ليس أقلها جائزة Goodreads للعام نفسه، ولهذه الشهرة المُحقَّقة وإقبال الناس المتلهِّف عليها؛ تهافتت عليها شركات الإنتاج واشتروا منها حقوق العرض السينمائي، فخرج إلينا فيلمٌ شديد التشويق يحمل الاسم نفسه، وهو من بطولة البريطانية الرائعة (ايملي بلنت)، وقد حقق إيرادات تجاوزت أربعة أضعاف ميزانيته المدفوعة.
(باولا هوكينز) البريطانية التي ولدت وعاشت طفولتها ومراهقتها في هيراري/زيمبابوي، والتي لم تستقر في لندن حتى بلغت عامها السابع عشر تنحاز للمرأة دومًا؛ لا أقول فيما تكتب بل في معظم ما تقرأ أيضًا؛ ففي حسابها الموثَّق على (إنستجرام) تشارك قرَّاءها صورة الكتب الستة أو السبعة التي تختارها لكل شهر، ولن نستغرق طويلًا لنرى أنَّ هذه الكتب صاغتها في معظمها أيادٍ ناعمة.
وبالعودة إلى فتاة القطار، نجد أنَّ الأحداث تدور عن نسوةٍ ثلاث، وريتشل واحدةٌ منهنَّ، وهي فتاةٌ جميلة ليس بينها وبين الهوى بغضٌ ولا عداوة، وقد أوغرَ زوجُها قلبَها بمراهقته المتأخِّرة وخيانته المتكررة، فصبرت عليه حتى كافأها بالطلاق وتحوَّل إلى غيرها يحبوها الحب ويهبها الأمومة، فتحوَّلت ريتشل بدورها إلى متسكِّعة ومدمنة تُديم ركوب القطار وتراقب في رحلتي الصباح والمساء شرفات المنازل المزروعة بالحب والانسجام؛ فتعلَّق قلبها بزوجين أسمتهُما (جيس وجيسون)، وكانت تتذكَّر بهما ما كانت عليه حياتها من دعةٍ وسعادة.
وتبدأ الأحداث بالتصاعد عندما تلمح ريتشل جيس على شرفة منزلها وهي تتبادل الهمس والعناق مع رجلٍ غريب، فتتيقَّن أنَّ ما كانت تراه من (جيس وجيسون) ما هو إلا حاشية عريضة من المشاعر المكذوبة والأحاسيس الملفَّقة، وأنَّ الخيانة تقيم في بيتهم منذ أزل، ثمَّ تتواصل الأحداث بالتصاعد والانفلات عندما يدفعها قلبها المحموم لزيارة بيت زوجها السابق وحمل طفلته في لحظة مسروقةٍ من أمِّها اللاهية فتقبلُ عليها المصائب وتورِّط نفسها في دوامةٍ جديدة من الاتهامات.
وتصل الأحداث إلى ذروتها عندما تغيب جيس (والتي سنكتشف أنَّ اسمها الحقيقي هو ميغان لاحقًا) عن المشهد تمامًا، وما هي إلا أيام حتى يُعثَر عليها مقتولة وجثَّتها المشوَّهة منقوعة في مياه الأمطار في غابة بعيدة، فتبدأ الشرطة بالبحث والتقصِّي، وهنا تُبدع الكاتبة في إقحام القارئ في التحقيق وإرغامه على المضي مع ريتشل التي يقتلها الفضول لإيجاد دليلٍ يُدين هذا ويبرئ ذاك في أحداثٍ متصاعدة لا يعتريها مللٌ ولا ينقصها التشويق والمغامرة.
فقد استخدمت الكاتبة تقنيةً رشيقة سريعة الإيقاع اعتمدت بواسطتها على اليوميات المؤرَّخة التي لا تلتزم بالضرورة بالتسلسل الزمني والواقعي للأحداث، وهذا ما أعطى الرواية تشويقًا إضافيًّا يدفع القارئ ليجوزَ الصفحات مُحتفيًا بالخاتمة التي يُتوقَّع من القارئ أن تهبط كتفاه كثيرًا لهول المفاجأة التي تجانبُ الظنون والتوقعات كلها.
ويُلاحظ أنَّ كل فصل من الحكاية يُروى بلسان واحدةٍ من البطلات الثلاث: (ريتشل) فتاة القطار، و(جيسي) المغدور بها، و(آنا) الزوجة الجديدة لـ(مات)؛ زوج ريتشل السابق، والكاتبة -لطرافتها- لم تسمح لرجلٍ من شخوص الرواية أن يروي لنا شيئًا طيلة العمل تأكيدًا منها على تأنيث الخطاب حتى منتهاه، وكأنَّها بذلك تمنح تلك النسوة جرعة قوة تعينهنَّ بها على رفاهية البوح وحرية الكلام، وهذا ما يعزِّز فكرة انحيازها المشروع تجاه المرأة مسلوبة الإرادة وتواطئها معها.
"البوحُ ليس سهلًا، ولكنِّي أعرف أنَّه يجب أن أبدأ الكلام، فإذا لم أبدأ الآن فقد لا أمتلك في أي وقتٍ آتٍ الشجاعةَ اللازمة لقول تلك الكلمات بصوتٍ مرتفع، بل يمكن أن أفقدها تمامًا، ويمكن أن تلتصق بحلقي فتخنقني في نومي."
جملةُ القول: هي روايةٌ صريحة ومعقَّدة عن الأمومة المفقودة، وعن الخيانة وسورة الغضب، وعن العلاقات التي تُنسَج في الظل وتُوارى في الظلام، وتُدارى بحذرٍ خشية الفضيحة، وعن الحب ووهم الحب؛ تلك المعضلة التي لا تحلُّ أبدًا.
معلومات الكتاب:
هوكينز، باولا. فتاة القطار، الحارث النبهان، مصر، منشورات الرمل، ط١، 2015.