الموسيقا والطبيعة؛ العلاقة الخالدة
الطبيعة والعلوم البيئية >>>> ورقو الأخضر شهر أيلول
من الطيور إلى الحيتان إلى أصوات عالمنا، حاول الموسيقيون دائمًا تجسيدَ سحر الطبيعة بالشكل الموسيقي.
وهنا، دعونا نسأل أنفسنا: هل هناك فنٌّ قادر على تمثيل المفاهيم العالمية التي يمكن أن تنطبق على جميع العصور الجيولوجية للأرض؟ وهل هناك شكل من أشكال الفن لا تنظمه المشاعر الإنسانية، بل القوانين الطبيعية؟
الجواب: الموسيقا هي بالضبط هذا الشكل من أشكال الفن، فأول صوت موسيقي ولد كان بهدف محاولة تقليد أصوات الطبيعة. ولكن ما الذي دفع الإنسان لإجراء هذا البحث؟ وفقًا لهربرت سبنسر "Herbert Spencer" الذي يُعالج القضية في مقالٍ نُشر عام 1857 بعنوان "أصل الموسيقا ووظيفتها"؛ فإن كل شيء ينبع من حاجة عاطفية، فقد فكر الإنسان في التعبير عن مشاعره باستخدام لغة مختلفة عن الكلمات، لغة يمكن أن تنقل مشاعر قوية، وهي التي لا يمكن للكلمات التعبير عنها بالفعالية نفسها. ووفقًا لهذه الرؤية؛ ولدت الموسيقا منفذًا نفسيًّا للنفس البشرية .
لم يقبل داروين Charles Robert Darwin هذه الأطروحة أبدًا، في تحفته الشهيرة عام 1871 أصل الإنسان والاختيار الجنسي؛ فقد أكد على أن القدرة على إنشاء لغة موسيقية ليست من صلاحيات الإنسان وحده؛ إذ يكفي أن ننظر إلى عالم الحيوان لندرك كيف تتأصل الموسيقا في جميع الكائنات الحية وترتبط في معظم الأحيان وظيفيًّا بالمنافسة الجنسية وإمكانية اختيار الفرد من الشريك. ينص داروين -في الممارسة العملية- على أن الموسيقا ليست -كما وصفها سبنسر- تطورًا ثقافيًّا متأخرًا، ولكنها ممارسة أكثر بُعدًا عن بُعد، جرى تأصيلها وتوزيعها في العالم الحي فقط. في الواقع إذا لاحظنا الطيور التي تغني دون وجود اللغة؛ فمن المعقول أن نعتقد أنه حتى أسلاف الإنسان -قبل أن يكتسبوا القدرة على التعبير عن الحب المتبادل بلغة واضحة- حاولوا أن يسحروا أنفسهم بالإيقاع والأصوات.
علاوة عن ذلك، فإن الموسيقا مدرجة في الحمض النووي لدينا وليس فقط الصوت نفسه هو في أصل الأشياء، وإنما وفقًا لميكانيكا الكم، لا تكون المادة خاملة أبدًا، ولكنها دائمًا في حالة حركة من الاهتزاز المستمر. اعتاد الفيزيائي النمساوي فريتجوف كابرا Fritjof Capra أن يقول: "كل ذرة تغني أغانيها على نحو دائم. كل ما يُشكِّل حقيقة وواقعًا فإنه يهتز، حتى الكائنات غير الحية والكثيفة مثل الأحجار التي تبدو لنا مادة صلبة، في الواقع هي أشكال من الطاقة التي تهتز، وإن كان ذلك على ترددات بطيئة للغاية. كل شيء في الكون يخضع لطاقة الاهتزاز وبذلك الصوت".
عندما تطمح أي موسيقا -من Bach إلى Stockhausen- إلى العالمية؛ فإنها تأخذ بنيتها ومبادئها التنظيمية التي هي مبادئ رياضية وحسابية؛ قوانين تحكم الطبيعة والحياة.
يجب أن يشمل أي اعتبار للعلاقة بين العملية الموسيقية والطبيعة فكرة الإيقاع الدوري، فالأرض نفسها هي ساعة. بمجرد أن أدرك أقدم علماء الفلك في الحضارة أن السماء تحركت وفقًا لأنماط منتظمة وربطت حركات الشمس والقمر بالتناوب بين السنوات والفصول والشهور والأيام والساعات والدقائق، أغلِق التقويم البشري. في الآلية العملاقة للكون؛ فإن دورات الحركات الكوكبية والنماذج الإيقاعية التي تستوعب التوقيت الطبيعي الذي لا يمكن تجنبه والتغيرات الدورية للأنشطة البيولوجية، كلها مدرجة تحت اسم "الإيقاع اليومي".
وتحدثت النظرية التوافقية التي انبثقت من ذلك العالم القديم عن موسيقا الأجواء، ولكن في وقت لاحق فإن الموسيقا الغربية قللت من أهم جانب فيها؛ ألا وهو إيقاعات الكون.
تطور الشكل الموسيقي، والبنية التي يمليها الشعور أو الحدس أو التجريب الصوتي أو الارتجال كان له الأسبقية على الديناميكيا "غير البشرية". في الأوركسترا الكلاسيكية؛ الإيقاع إما غير موجود، وإما يستخدم تكثيفًا، ونادرًا ما يكون بطل الرواية في مجال الصوت، لعلنا نتساءل الآن كم عدد حفلات الإيقاع هناك؟
استغرق الأمر موسيقا الجاز والروك والفانك وجميع أشكال الموسيقا الإلكترونية -إضافة إلى إعادة اكتشاف الفونوغراف للعديد من أشكال الموسيقا العالمية والتقليدية، من الطبول الأفريقية إلى جيلامان بالي- لإعادة الاندماج في فكرة الموسيقا، القوة الدافعة للإيقاع التكرار والإحساس بالفضاء يسقطان بين يدي الطبيعية مرة أخرى.
هنا;
تتوالى التصورات الموسيقية ذات المنشأ الطبيعي بشدة، في أيدي ملحنين مختلفين، أصبحت الضوضاء الإيقاعية ناقلات كما في العمل الرئيسي Pléïades 1979 للمؤلف Iannis Xenakis لوحة موسيقية طويلة من 44 دقيقة متواصلة لأدوات الإيقاع فقط، بعضها اخترعها الملحن نفسه (مثل sixxen التي بنيت على عدد قليل من المقاطع المأخوذة من لقبه). تركيبة تتميز بنبضات متكررة توصف بكونها ذرات إيقاعية وتتعرض لدرجات متزايدة من التباين.
كتب Xenakis أن هذه الاختلافات وإيقاعات ضربات القلب قادرة على "أن تؤدي إلى عدم انتظام ضربات القلب في المجمل، أو إلى إدراك عميق لحدث الصوت والقوانين التي تحرك الغيوم في السماء وتنظم السدم، والمجرات، وكل جسم سماوي؛ لأن طبيعتها ليست لا شيء سوى النكات المجزأة التي نظمها الإيقاع".
وماذا عن أوبرا Noir de L’Etoile للمؤلف الفرنسي جيرارد غريسي؟ إذ أُلفت هذه الأوبرا باستخدام إشارات الراديو من النجوم النابضة الدوارة، مصورة عمق مسافات لا يمكن تخيلها في الفضاء والطموح الجاذب للثقوب السوداء تلك العتمة التي انبثق منها أصل الحياة. هدفه هو جعل الفضاء مسرحًا كونيًّا لموسيقا تصويرية نستطيع لمسها باسخدام حواسنا الأرضية. تتراكم الطبول في ظلام الصمت، ونحن مضطرون للتفكير في وجود دورات إيقاعية لانهائية كبيرة ومعقدة لكن مع الأسف لا يمكن فهمها بعد من خلال تصورنا البشري الضئيل أمامها.
هنا;
جعل القرن العشرين من تكنولوجيات التسجيل الرائدة في هذا المجال ضرورةً أكثر إلحاحًا؛ إذ ساهم الميكروفون وأدوات التسجيل الموسيقي في إدخال الأذن البشرية إلى مجال الطبيعة عل نحو لم يسبق له مثيل. في عام 1970؛ كان أحد أكثر المفاجآت مبيعًا LPs تسجيلًا تحت الماء، وهو أغان مسجلة من الحوت الأحدب الذي أعدَّه عالمُ الأحياء الأمريكي روجر باين. وقد حقق هذا الألبوم -الذي باع أكثر من 100،000 نسخة- نجاحًا، وعلى الرغم من أن أيًّا من هذه الثدييات المهيبة لم يفز بجائزة Grammy؛ فقد أعلن فجر حقبة جديدة في عادات الاستماع التي نتحمل فيها جميعًا مسؤولية كبيرة في الحفاظ عليها وزرع الموسيقا الطبيعية للأرض لمساعدتها على النجاة من عصر الأنثروبوسين الحالي؛ وهو عصر يتسم فيه العالم الطبيعي بسيطرة الأنشطة البشرية الصاخبة.
هنا;
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- Moore, A. W. The Evolution of Modern Metaphysics: Making Sense of Things. Cambridge and New York: Cambridge University Press,2012.
هنا
4- Campbell, Edward. Music after Deleuze. London: Bloomsbury Academic, 2013
هنا
5- Hennessy, Jeffrey J. ‘Beneath the Skin of Time: Alternative Temporalities in Grisey's Prologue for Solo Viola’. Perspectives of New Music47/2 (2009), 36–58
هنا
6- Grisey, Gérard. Le Noir de l’Étoile. Les Percussions de Strasbourg. CD, Universal, MFA 476 1052, 2004
هنا