مراجعة رواية (الرباط المقدس)؛ عمل أدبي يتفلَّت خارج المفاهيم المعتادة
كتاب >>>> روايات ومقالات
وبينما كان يفكر بهذه الطريقة وقعت عيناه على رسالة غريبة بين الأوراق تطلبه بسؤالٍ كسر قالب الاعتياد لديه؛ رسالة يتضح أنَّ صاحبها قد مسَّه من التيه والاضطراب ما مسَّه، ويحتاج إلى لقاء معه في أقرب فرصة ممكنة، وكانت بدايتها تقول: "إنِّي أريد أن اشتغل بالأدب!"
ومن هنا ينطلق العمل بمطلع هادئ ومُحكم في الوقت ذاته، على الرغم من أنَّه يحوي ثلاث شخصيات رئيسة لا رابع لها، الزوج والزوجة، وراهب الفكر الذي اعتاد أن يسمع من قرَّائه المشكلات لعلَّه يستطيع أن يقدم يد العون في بعض الحالات؛ كحالة هذه الزوجة مثلًا والتي جذبته ولفتت انتباهه، فهذه الزوجة تشكو من شرخٍ كبيرٍ واقع في علاقتها بزوجها، وهما -بالمناسبة- قد تزوجا منذ سنة تقريبًا، ولكنَّها تشعر بأنَّها بعيدة عنه فكريًّا؛ كونه مولعًا بالأدب وفروعه ويحب الاطلاع والقراءة كثيرًا، وهي على عكسه تهتم بالتنس والسباق والسينما، وهذا ما يجعلها تشعر بقدرٍ من التفاهة أمام زوجها، ففكرت أن ترسل إلى (راهب الفكر) حتى يعلمها مدارس الأدب وفروعه ويحبِّبها في القراءة.
وانطلاقًا من هذا الحدث، يضعنا العمل أمام تساؤل كبير تطرحه شخصية الزوجة طرحًا غير مباشر: هل علينا أن نتجرد من أنفسنا ونرغمها على الاهتمام بتفاصيل لا نأبه بها حتى تتوافق علاقتنا مع الطرف الآخر أم أنَّ التوافق يحدث حتى بين المختلفين؟!
وتمرُّ أحداث الرواية بعدها بشيء من البطء الثابت؛ إذ يطلب (راهب الفكر) من الزوجة أن تقرأ كتابًا بعنوان (راهب تاييس) وأن تعود إليه بعد إكمالها الكتاب، وهذه العلامة لم توضع عبثًا داخل العمل، بل هي نقطة تحتسب لــ(الحكيم)، وهنا نخرج قليلًا حتى نفهم صلة العنوان الذي اقترحه (راهب الفكر) على الزوجة، فــ(تاييس) قدِّيسةٌ مصرية من مدينة الإسكندرية، كانت يتيمة الأب، ولم تكن أمها تمنحها قدرًا من العطف والاهتمام، وكانت هذه الأم تبيع جسدها مقابل بعض الأموال، فتأثرت (تاييس) بعمل أمها وسقطت في حياة اللهو والدنس وشاركت أمَّها هذه الوظيفة، ثم تابت (تاييس) عن الأخطاء التي اقترفتها كلها أخيرًا، وقررت أن تصبح راهبة تسرد قصتها على الآخرين علَّهم يعتبرون، وبالعودة إلى الحديث عن هذه التفصيلة داخل العمل، فإنَّ اقتراح (راهب الفكر) لهذا الكتاب تحديدًا يوحي إلى القارئ بشيءٍ من الحُكم المسبق على الزوجة، أو لعلَّه إنذار خفي أن لا تعبثي ولا تقترفي الخطأ الذي اقترفته (تاييس)، فتصبحي رهينة الندم والحسرة.
"أمَّا الألم الذي عاناه بعدئذ ويعانيه، فهو شيء خفي لا يراه أحد ولا يعلم به إنسان، ولا ضرر فيه للناس، ولا مساس فيه بحقوق الغير!.. ومادام قد سُمِح له بهذا الألم، فلماذا لا يُسمَح له أيضًا بالحب؟ بهذا الحب الخفي الذي لا يراه أحد ولا يدري به حيٌّ؟"
وحين نتقدَّم قليلًا في العمل، نجد أنَّ الراهب قد بدأ التأثر بالزوجة عاطفيًّا، وقبل أن يفتح علينا العمل بابًا آخرًا من التساؤلات عن ماهيَّة العواطف البشرية وكيفية تشكُّلها وظهورها دفعةً واحدة عند حدثٍ ما وعن قدرتنا على السيطرة عليها، علينا التركيز على أصل تسمية هذه الشخصية قبل أيِّ شيء آخر، فــ(الحكيم) أطلق على هذه الشخصية (راهب الفكر) دون أن يمنحها أيَّ اسم خاص يدل عليها، وهذا اللقب يوحي إلى المتلقي بمعنى كبير؛ إذ إنَّ رجال الدين فيهم الرهبان الذين يهتمون بأمر العامة ويحاولون إصلاح فساد أمرهم، إضافةً إلى أنَّ هناك رهبان فكر بين المثقفين أيضًا، وهم يحاولون أن ينشروا الوعي بين الناس، وأن يحبِّبوا إليهم الاطلاع وممارسة عادة القراءة؛ فلذلك كان (توفيق الحكيم) سبَّاقًا في خلق هذه الشخصية الفريدة والتي يندر أن تتطرَّق إليها الأعمال العربية.
وتبدأ شخصية الراهب في هذه المرحلة بالتخبُّط النفسي والصراع مع الذات، وتخوض هذه الشخصية -أيضًا- رحلة صوفية مبطَّنة حتى نهاية العمل تقريبًا بين محاولة الإصلاح بين الزوجين، ومجاهدة نفسه ألَّا يقع فريسة لمشاعره الجارفة.
فحاول الحكيم أن يخلق وسطًا متذبذبًا تظهر لنا شخصية الراهب عن طريقه، وفي قراءتك للعمل ستجد أنَّه قد نجح في ذلك دون أيِّ مبالغة أو تزييف يجعلانك تشعر أنَّها شخصية (مفتعلة) وغير حقيقية.
"إنّ حاجتي إلى حياة حرّة كانت دائمًا حلمي المسيطر على نفسي الناشئة، ومع ذلك فقد نشأت في أسرة كبيرة عديدة الأفراد، كلهم متفق على مضايقتي إلى أقصى ما يستطيع، وكلهم يحاول أن يبحث في مجرد نظراتي، وأن ينقب في أعماق أفكاري ليرى إذا كان يجوز لي أو لا يجوز أن أتصرف هذا التصرف أو ذاك!.. إنهم لا يكلّون ولا يتعبون من مراقبتي وملاحظتي.. لا أريد أن أقول إنّهم شرّيرون ولكنّي أريد فقط أن أقول: إني لا أتفق معهم أبدًا في الأفكار، وإن طريقة تفكيري وفهمي للأشياء تختلف عن طريقتهم على الإطلاق، إنّ ما يسمّونه (العائلة) شيء مؤثر حقًّا.. وشيء طيّب، ولكنّه شيء يضايق!"
وعن طريق هذه الأسطر القليلة نستطيع أن نتعرَّف إلى ملامح شخصية الزوجة بوضوح تقريبًا، فهي المرأة التي قيَّدتها أسرتها بسلاسل حديدية، فسُلِبت حريتها منذ النشأة حتى أصبحت تتوق إلى نفحة من نفحات الحرية، وترتقب أقرب فرصة لتلقي بنفسها داخل أحضان التمرد واللاخضوع، فأصبحت تحب روح المغامرة، وتكره كل شيء يُقلِّل من محدوديتها في ممارسة الحرية بأي شكل من الأشكال؛ كتجربة زواجها مثلًا، وعلى الرغم من أنَّ العمل لم يصرح عن بداية خوضها هذه التجربة مباشرةً، ولكنك تستشعر الملل والثقل الذي يثقل كاهلها منذ بداية دخولها إلى الحياة الزوجية، وكأنَّهما يصرخان لها بأعلى صوتيهما بأنَّ هذه فرصتك الوحيدة للتمرد، ولِتشعري بذاتكِ المهمشة، ولردِّ ثأركِ من الحياة!
وبناء على هذه الأوهام التي بنتها لها النشأة الخاطئة، فإنَّها تبدأ باتباع أصوات عاطفتها ومشاعرها خارج نطاق الزوجية ولو كانت هذه المشاعر مستترة في نفسها، فتمسك مُفكِّرتها الصغيرة، وتشرع في كتابة أحداث مرت بها في أيامها السابقة، وهي أحداث تجعلك تحت تأثير الشك تارةً، وتحت تأثير التأكد واليقين تارةً أخرى، ولكنَّ كل ذلك لن يهم الآن, طالما أنَّ هذه الأحداث ستغيِّر مجرى العمل على كل حال من الأحوال.
"ما أشقى الآدميين!.. لقد كُتِب عليهم العمى، وهم يحسبون أن لهم عيونًا مبصرة، إنَّا لا نبصر حقيقة الأشياء إلّا بعيوننا الداخليّة، ولا ندرك حقيقة الأمور إلا باتصالها، واصطدامها بجوهر مشاعرنا."
لعلَّ هذه العبارة المخبأة داخل أسطر الكتاب هو ما يحاول أن يرمي إليه العمل بطريقةٍ ما، هذا العمل الذي نجح (الحكيم) في خَلْق شخصياته الثلاث بتفاصيلهنَّ وتقلباتهنَّ النفسية كاملة، وقد قرر الكاتب أن يقدمها بأسلوب المتكلم حتى تجيد التقرَّب إلى القارئ وتحسن البوح والاعتراف، هذه الشخصيات التي لا تحمل اسمًا ولا لقب عائلة، بل ألقابًا عمومية تدلُّ على المكانة الاجتماعية وحسب، ولعلَّ (الحكيم) أراد أن يترك مساحة واسعة هنا للمتلقي دون أن يقيده بشيءٍ من الأسماء، فهذه التخبُّطات النفسية قد تحدث للجميع دون استثناء؛ لأنّ الجميع يتملَّكه شيء يُطلق عليه النزعة الإنسانية، هذا الشيء الغريب الذي لم يتمكَّن أحد من فهمه وترجمته حتى الآن.
معلومات الكتاب:
أ. الحكيم، توفيق. الرباط المقدس، القاهرة، دار الشروق، ط2 ، 2007