التشييء (Objectification) علاقته بالصور الأُنثوية النمطية
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم الاجتماع
لقد أشار بعض المفكرين والنسويات إلى أن النساء في مجتمعنا تُحدد قيمتهنّ عن طريق أجسادهن من أجل الحصول على القبول الاجتماعي، ويحدث هذا التقييم للنساء أكثر من الرجال، في حين أن النساء يتعرّضن لضغط مستمر يدفعهن للاهتمام بمظهرهن بما يتوافق مع المثل العليا للمظهر الأنثوي الذي حدّده المجتمع. وجادلت بعض النسويات بأن النساء حينما ينشغلن بمظهرهن يعاملن أنفسهن على أنهن أشياء يجب أن تُزيَن ويحدّق بها؛ تستخدم الأستاذة الفخرية في الفلسفة ساندرا بارتكي (2016-1935 Sandra Bartky) في كتابها الأنوثة والهيمنة (Femininity and Domination) نظرية العزلة (Theory of Alienation) التي وضعها الفيلسوف كارل ماركس (Karl Marx 1818-1883) لتفسير التشييء الذي ينجم عن انشغال المرأة بمظهرها، إذ إن إحدى سمات نظرية ماركس للاغتراب هي تجزئة الكائن البشري أو تهشيمه، وتعتقد ساندرا بارتكي أن النساء في المجتمعات الذكورية يتعرضن أيضًا لنوع من التهشيم لإنسانيتهنّ حين يُوضَع كل التركيز على شكل المرأة وجسدها بطريقة لا يُؤخَذ عقلها أو شخصيتها بالحسبان. وتُسهب مُقدمةً مثالًا بسيطًا لتوضيح فكرتها؛ وهو بأن النساء يحاولن شغل مساحة ضيقة جدًّا من المكان مع فرض مجموعة قواعد تضبط طريقة جلوسهنّ، في حين يُلاحظُ على الرجل كثير من الأريحية في طريقة جلوسه؛ إذ يأخذ حيزًا واسعًا ومساحةً كافية من المكان الذي يوجد فيه دون أن يخضع لقواعد جلوس المرأة نفسها؛ الأمر الذي يوضح التناقض بين كلا الجنسين ويُبين لنا، وإن كان بأصغر التفاصيل؛ أسلوب الحياة المقيّد والخيارات الضيقة والمحدودة في حياة المرأة (1).
وباهتمام وافتنان الفتاة بمظهرها الخارجي دون غيره تصبح أداة تستخدمها هي بنفسها لتشعر بالنرجسية، وهذا ما تذهب إليه الفيلسوفة الوجودية الفرنسية سيمون دي بوفوار (1986-1908 Simone de Beauvoir) التي ترى بأن الفتاة تصبح شريكًا في التشييء الذي يُستخدَم ضدها عندما تبدأ هي بتشييء ذاتها وإبداء الأهمية لشكلها على عقلها. لذلك ترى الفيلسوفة بارتكي أنه من الصعب جدًّا على النساء أن يخرجن من هذه الدوامة ويتحررنّ من تشييئهنّ كونهن أصبحن شريكات في تشييء أنفسهن (1).
وتزعم نظرية التشييء التي تبنتها كل من الأستاذة الأمريكية في علم النفس باربرا فريدريكسون (Barbara Fredrickson) وأستاذة علم النفس تومي آن روبرتس (Tomi-Ann Roberts)؛ أن النساء بتعرضهنّ للتشييء يُصبحن غير راضيات عن مظهرهن وينظرن لأنفسهنّ على أنهن مجرد أشياء لافتة للنظر ويجب أن تُقيّم على أساس مظهرها. وأن التشييء يمكن أن يزيد من قلق النساء بشأن المظهر الجسدي ويُخفض فرص الوصول إلى ذروة الحالات التحفيزية أو التدفق؛ ويقلل من الوعي للأحاسيس الجسدية الداخلية (مثل الجوع والإثارة الجنسية وانقباضات المعدة)، وزيادة فرص شعور النساء بالعار تجاه جسدهن ومن ثم زيادة قلق النساء على سلامتهن الجسدية التي بدورها يمكن أن تؤدي إلى اختلالات وظيفية في الأكل والاكتئاب والجنس (2).
وترى كل من الناشطة النسوية البريطانية ناتاشا والتر (Natasha Walter) والكاتبة والنسوية الأمريكية بوردو (Bordo) أن الاهتمام بالمظهر لم يعد محصورًا بالنساء، ويؤكدن حقيقة أن الرجال في مجتمعاتنا أصبحوا ينخرطون في تجميل الشكل ويسعون إلى نيل إعجاب النساء، وبدأوا في بذل المزيد من الوقت والمال والجهد على الشكل الخارجي. إذ يشعر الرجال أيضًا بالحاجة إلى جعل مظهرهم يتوافق مع المثل العليا السائدة عن الرجولة (1).
وقارنت العديد من الفيلسوفات النسويات تُبين فيها أوجه الاختلاف بين الموضوعية (Objectivity) والتشييء (Objectification) وأهم ما أوضحوه هو أن الموضوعية تعني محاولة مقاربة وجهة نظرك للواقع كما هو لتتلاءم أنت مع معطياته، في حين أن التشييء هو أن تُبلور أفكار الواقع ومعطياته بطريقة توافق فيها آراءك ورغباتك أنت. وهذا مايحدث بالنسبة إلى الشق الجنسي، فالرجل يسوّق لفكرته عن ضعف المرأة وتبعيتها له فطريًّا على أنها الحقيقة الموضوعية، على الرغم من أنها مغلوطة بالطبع، ويفعل ذلك فقط لنيل غاياته الجنسية وتكريس مرؤسيّته عليها، أي يكون مُشيّئًا لها (1).
احتمالية وجود التشييء الإيجابي:
يرى آلان سوبل (Alan Soble) وهو فيلسوف أمريكي ومؤلف عدة كتب عن فلسفة الجنس، أن التشييء ليس بالضرورة أمرًا خاطئًا أو غير ملائم، فهو يرى أن كل إنسان هو عبارة عن مجرد شيء ما في هذا الكون وهذا لا يعدّ -حسب رأيه- أمرًا سلبيًا، إذ إنه يؤكد على أن الجميع معرض للتشييء كون هذه الحالة هي المستوى الطبيعي والكوني الصحيح لكل البشر. أما بالنسبة إلى العلاقة الإباحية باللامساواة، فيرى سوبل أنه لا يوجد أي نوع من التشييء السلبي اللاأخلاقي في المحتوى الإباحي. ويتفق الباحث ليزلي غرين (Leslie Green) مع سوبل بفكرة أننا جميعنا أشياء في هذا الكون وتشير إلى حاجة الإنسان لأن يشعر بأهميته عن طريق حاجة الأخرين لمعاملته بصفته شيئًا مهمًا (صديق، حبيب، رفيق، زميل..)، لكنه يُدين أن يكون التعامل مع الإنسان أداة فقط وإهماله إنسانًا. لكن الفيلسوفة مارثا نوسباوم (Martha Nussbaum ) تُخالف ليزلي غرين في وجه نظره، وتنفي أن يكون الإنسان مُشيّء ولو جزئيًّا، لكنها ترى أن الحالة الوحيدة التي يكون في الشخص مُشيّئًا دون أن يفقد إنسانيته هي انخراطه في النشاط الجنسي مع شخص يُحبه؛ عندها بحسب نوسباوم يُصبح كلا الشخصين مُسخرين أداة لإسعاد الآخر جنسيًّا دون أن يكون أحدهما قد فقد كيانه الإنساني، واستوحت فكرتها من رواية (عشيق الليدي تشارلي) (Lady Chatterley's Lover) للكاتب والشاعر الإنكليزي ديفيد هاربرت لورنس (D.H Lawrence 1885-1930) (1).
مما لا شك فيه أن التشييء مفهوم يصعب تعريفه وتكثر النقاشات عنه، ولذلك كُرِّسَت الكثير من الأعمال النسوية الحديثة للعمل على تحليلات فلسفية شاملة للتشييء، التي نأمل أن تؤدي إلى فهم أكثر تماسكًا وواقعية لهذه الفكرة.
لقراءة مقال (التشييء وعلاقته بالإباحية واللامساواة الجنسية) هنا
المصادر:
[1] هنا
[2] هنا