«اللاسلطوية/ الأناركية - Anarchism».. طريقٌ إلى الثورة أم إلى الفوضى؟
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة السياسية
وتعني كلمة «اللاسلطوية/ أو الأناركية - Anarchy» -وهي مشتقةٌ من الكلمة اليونانية (Anarkhia)-: ((ضد السلطة أو دون الحاكم)). ومع تطور الأفكار السياسية يمكن النظر إلى «اللاسلطوية» بجسبانها التصور النهائي لكلٍّ من (الليبرالية الحديثة) و(الاشتراكية)، ويمكن إدراج الفروع المختلفة للتيار اللاسلطوي إلى أيٍّ من هاتين الأيديولوجيتين لاتفاقهما مع المطالب القائمة على ضرورة الحرية الفردية والمساواة وابتعادهما عن هرم السلطة التراتبية والتسلط. ولم تنشأ السلطوية -من الناحية التاريخية- بوصفها رد فعلٍ للفجوة وتفسيرًا لها بين الفقراء وسلطة الأثرياء عليهم -أو الضعفاء وسلطة الأقوياء عليهم- فحسب، ولا تفسيرَ لسبب اضطرار الأفراد إلى الصراع من أجل نصيبهم في الملكية العامة ضد السلطة المُحتكِرة لهذه الموارد وهذه القوة، بل ونشأت «اللاسلطوية» لتُجيبَ عن سؤال "ما الخطأ الذي يحدث بعد انتهاء ثورات الفقراء ممّا يعيد الأمور إلى حالها قبل الثورة؟" أيضًا. ومن الأمثلة على هذا النوع من الأسئلة؛ ما عقب بعد النتيجة النهائية للثورة الفرنسية، فقد انتهت ليس فقط بحكمٍ إرهابيٍّ وظهور طبقةٍ حاكمةٍ حديثة الثراء؛ ولكن أيضًا بإمبراطورٍ جديدٍ محبوبٍ -نابليون بونابرت (1821-1769 - Napoléon Bonaparte"- ينشر سلطته عبر حروبه (2).
ويعرّف المؤرِّخ الأناركي الألماني "رودولف روكر - 1958-1873 Rudolf Rocker" «اللاسلطوية» بأنها:
"ليست نظامًا اجتماعيًّا ثابتًا ومنغلقًا على نفسه، بل هي اتجاهٌ معينٌ في التطور التاريخي للإنسانية؛ التي -وعلى النقيض من جميع أشكال الوصاية الفكرية المرتبطة بالمؤسسات الدينية والحكومية- تسعى جاهدةً للكشف عن جميع القوى الفردية والاجتماعية في الحياة وتحريرها. وذلك على الرغم من أن الحرية ليست مثالًا مطلقا، بل مجرد مفهومٍ نسبيٍّ يميل باستمرارٍ إلى التمدد والتأثير في دوائرَ أوسعَ وفي طرقٍ متنوعة. وليست الحرية، بالنسبة للأناركيين؛ مصطلحًا فلسفيًا مجردا؛ لكنها فرصةٌ حيويةٌ وملموسة؛ تسمح لِكل إنسانٍ ببلوغ أكمل تطورٍ لقدراته جميعها وإمكانياته ومواهبه التي وهبته الطبيعة إياها. وتحويل ذلك كله إلى رصيدٍ اجتماعي" (3).
تبرز في «اللاسلطوية» مجموعةٌ من الأشكال المتعددة ومختلفة الاتجاهات في النقد والتعامل والهدف، إذ أن «اللاسلطوية السياسية - Political Anarchism» تقوم على كونها نظريةً تشكِّك في الشرعية السياسية وقيام الدولة، ويركز (اللاسلطويون السياسيون) في نقدهم على سلطان الدولة، أي رأس الهرم السياسي، وهذا استنادًا إلى اعتبار هذا الهرم السياسي مركزيًا واحتكاريا، إضافةً لكونه قمعيًا وغير شرعي. ويُحاجج بعضهم من حيث أن اللاحكم في هذه الحالة يتحقّق من خلال حكم الكل عبر الاتفاق والإجماع (1).
وامتد نقد اللاسلطويين من السياسة واحتكار السلطة إلى نقد الدين ومفهوم سلطة الإله، فجاءت «اللاسلطوية الدينية - Religious Anarchism»، ويقول اللاسلطوي الروسي "ميخائيل باكونين - 1876-1814 Mikhail Bakunin" في هذا السياق: "إذا كان الإله موجودًا حقا؛ فإلغاؤه سوف يكون ضروريًّا". وهذا انطلاقًا من النزعة لإلغاء كل سلطةٍ تحدُّ من حرية الفرد، ومع ذلك نجد نسخًا دينيةً من «اللاسلطوية»؛ إذ توجِّه نقدًا إلى السلطة السياسية من موقعٍ يأخذ الدين على محمل الجد (1).
بينما توجه «اللاسلطوية النظرية - Theoretical Anarchism» نقدها نحو نظرية المعرفة (الأبستمولوجيا) والنظرية الفلسفية والأدبية. وتظهر «اللاسلطوية» في هذا السياق بصورة نقدٍ عامٍّ للأساليب المنهجية والسائدة. ويوفِّر الإطار النقدي الواسع الذي وفَّرته «اللاسلطوية» على نحوٍ عامٍّ منفذًا للنقد الاجتماعي، وهذا ما شرَعت به «اللاسلطوية التطبيقية - Applied Anarchisms»؛ إذ استُخدِمت في نقد التراتبية الجندرية والعرقية، وتضمَّن هذا النقد سلطة الإنسان على الطبيعة (eco-anarchism). وأيضًا تضمَّنت «اللاسلطوية» تنوعاتٍ أخرى في مجال النقد الاجتماعي مثل «اللاسلطوية النسوية - anarcha-feminism»، و«اللاسلطوية المثلية - queer anarchism»، وتُجمَع هذه الأنواع الأخيرة تحت فكرة رفض أنساق الهيمنة والقمع العرقية والعنصرية والجندرية كلها ونقدها (1).
ومع أن «اللاسلطوية» لم تحقق نجاحًا جذريًا في ثوراتها، فقد كان مصير اللاسلطويين هو مصير الخاسرين الشجعان -حسبَ وصف كولين وارد (Colin Ward). لكن اللاسلطويين لا يؤمنون بحتمية قيام ثورةٍ نهائيةٍ تسقط مفهوم السلطة من المجتمع البشري، بل إن «اللاسلطوية» عمليةٌ متتاليةٌ من الأفكار والأجيال والثورات، يقول اللاسلطوي الألماني "جوستاف لاندوار - Gustav Landauer 1870-1919":"الدولة ليست كيانًا يمكن إسقاطه بثورة، ولكنها حالةٌ -أو علاقةٌ معينةٌ بين البشر، أو شكلٌ للسلوك الإنساني- يمكن أن نسقطها بعقد علاقاتٍ أخرى، وإنتاج سلوكياتٍ مختلفة" (2).
ترِد كثيرٌ من الانتقادات اللاذعة حول الحركة «اللاسلطوية» والمفهوم عموما؛ مثل عدِّها حركةً طوباويةً وغير واقعية؛ أي لا تخرج من مجال التنظير وسوف تُحبَط بعد أول اصطدامٍ مع الواقع، إذ يزعم هذا الاعتراض أن لا سبيل لتدمير الدولة أو تفكيكها ولن يجني ذلك أيَّ ثمار، بل من الأصح التوجه إلى انتقاد اللامساواة والتراتبية السياسية والسلطوية لإحياء مجتمعٍ حديث. ويعدُّ بعض اللاسلطويين ألَّا ضرر في عملية التنظير هذه، بل هي ضرورةٌ لفهم القِيَم والالتزامات المُطالَب بها (1).
وتواجه «اللاسلطوية» نقدًا يُقرُّ أنها ستعود حيث بدأت، أي أنها تنمو بصورةٍ تعيدها إلى الدولة، ويستند هذا النقد عادةً إلى نظريات العقد الاجتماعي حسب رؤية الفيلسوف "توماس هوبز" الذي أظهر أن الدولة تظهر بصورة ردِّ فعلٍ طبيعيٍّ عن فوضى الطبيعة، ممّا يحفظ النظام ويحمي مصالح أفراده.* لكن قد يناقش اللاسلطويون أن حالة الطبيعة ليست حالة حرب، وبهذا ينفون نظرية العقد الاجتماعي عند "هوبز" -وغيرها من النظريات- بصورةٍ مطلقة، ويناقش آخرون أن حالة الطبيعة (دون وجود دولة) هي أفضل حالًا من وجود الهرم السلطوي الذي تورَّط به البشر (1).
بينما النقد الأكثر شيوعا، هو عدُّ «اللاسلطوية» وجهًا آخر للفوضوية كونها تدميريةً وهدَّامة، وتُعرَف مسبقًا في المناقشات باسم (الفوضوية) أيضا. وحسب هذا النقد؛ فإن «اللاسلطوية» تسعى للتدمير بصورةٍ مطلقة حتى ما يطال الأخلاق والقِيَم الأخلاقية. في الوقت نفسه يُعدُّ هذا من أكثر الانتقادات انحيازًا وتسرعا كون أن اللاسلطويين على الرغم من أنهم متعددين ومختلفين في تياراتهم؛ إلا أنه يلتزم كثيرٌ منهم بمبادئَ أخلاقيةٍ مثل الحرية والاستقلال والتضامن والمساواة، ويعتقدون أن مفهوم السلطة هو ما يمنع الازدهار الإنساني (1).
*راجع مقال (الخوف أساس نشوء الدولة برؤية توماس هوبز): هنا
المصادر:
2. وارد، كولين. (2014). اللاسلطوية؛ مقدمة قصيرة جدًّا. ترجمه: عبد السلام، مروة. (ط1). القاهرة: مؤسسة هنداوي. ص7.9.15
3. غيران، دانيال. (2015). الأناركية من النظرية إلى التطبيق. ترجمه: سلطاني، عومرية. (ط1). القاهرة: تنوير للنشر والإعلام. ص27.28.57