كيف استطاع الخردل السيئ السمعة التكفير عن جرائمه؟
الكيمياء والصيدلة >>>> كيمياء
بالتأكيد!
لابدَّ أنها تلك الصلصة الصفراء اللون الحادَّة الطعم التي تضاف إلى شطائر الهمبرغر وتضفي عليها تلك النكهة المميزة!
ولكننا سنغير مفهومك عن الخردل اليوم؛ ونعرفك إلى واحد من أشد الغازات سمية؛ والمعروف بغاز الخردل "Mustard Gas" أو خردل الكبريت "(Sulfur Mustard (SM".
يتميز هذا الغاز بأنه سائل زيتي أصفر شاحب اللون يتبخر متحوِّلاً إلى غاز شديد السمية، ويمتلك خواص مؤلكلة، ورائحة حلوة تشبه الثوم.
وينتمي غاز الخردل إلى فئة المركبات المعروفة باسم العوامل المنفطة أو المُقرِّحة "Blister or Vesicant Agents"؛ وهي مواد كيميائية تسبب ضرراً شديداً للجلد (1,2).
يؤدي الاستنشاق -وهو الطريق الرئيسي للتعرض- إلى حدوث سمية تنفسية وجهازية، تعتمد هذه السمية على الجرعة؛ وتتراوح الآثار بين الأعراض البسيطة مثل تهيج الجلد والتهاب الملتحمة إلى تلف الرئة الشديد عند الاستنشاق، ويمكن أن يكون له تأثيرات مزمنة أيضاً؛ مثل الغثيان والإقياء والثعلبة وزيادة الحساسية للعوامل الممرضة.
تنتج هذه الأعراض عن خواص هذا السُم المؤلكلة؛ فهو يدمر الحمض النووي DNA للخلايا؛ مُسبباً فقر دم لا تنسُّجي بسبب انخفاض تصنيع خلايا الدم، بالإضافة إلى تأثُّر نخاع العظم والجهاز الهضمي عند التعرض المزمن لخردل الكبريت. كل هذه التأثيرات جعلت منه عامل حرب كيميائي شديد "Chemical warfare agent"؛ فقد استُخدم في الحربَين العالميتين الأولى والثانية وتسبب بآثار مؤذية ومميتة (3,4).
ولكن؛ على الرغم من الاستخدام المُروِّع لغاز الخردل في الحروب؛ وتصنيفه مادة مطفرة ومسرطنة؛ فقد ساهم في اكتشاف أولى عوامل العلاج الكيميائي الحديث!
بدأ ذلك عام 1919؛ عندما أُبلغ عن تأثيرات غاز الخردل في خلايا الدم ونخاع العظام لأول مرة بعد علاج المرضى المعرضين له في فرنسا؛ إذ وُجد أنه يخفض عدد خلايا الدم خفضاً كبيراً. وفي فترة الحرب العالمية الثانية؛ موَّل مكتب الولايات المتحدة للبحث العلمي والتطوير (OSRD) جامعة Yale لإجراء أبحاث على هذه العوامل سرَّاً، وقد دعمت دراساتهم الملاحظات السابقة فيما يتعلق بانخفاض عدد كريات الدم البيضاء؛ إذ لوحظ انخفاض حجم الأورام اللمفاوية عند حيوانات التجربة انخفاضاً كبير عند تعرضها لغاز الخردل.
إلا أنَّ ما لفت انتباه المجتمع الطبي إلى أبحاث مجموعة Yale وأطلق حقبة العلاج الكيميائي للسرطان كان حادثة غاز الخردل في الحرب العالمية الثانية؛ ففي الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 1943؛ وعند قصف مدينة Bari الإيطالية؛ تعرَّض البشر عن طريق الخطأ لغاز الخردل، وبدأ ظهور العلامات المألوفة للتعرض لغاز الخردل على السكان في الأسابيع التي أعقبت الكارثة، وأُكّد التعرض لغاز الخردل بعد تشريح جثث الضحايا ووجود أضرار عميقة في النخاع وانخفاض في عدد الكريات البيضاء (1,4). عززت حادثة Bari الشك في القدرة على الاستفادة من تأثير غاز الخردل في قتله للخلايا السريعة الانقسام -كالكريات البيضاء- طبياً، وبناء على الملاحظات والأبحاث عن هذه الحادثة انطلق عصر جديد لعلاج السرطان كيميائيَّاً.
وقد غيرت هذه الأحداث مفهوم علاج السرطان؛ فمع ظهور مفهوم مزيج العوامل الكيميائية كخردل النيتروجين والفينكريستين والميتوتريكسات والبريدنيزون في أواخر الستينات؛ بدأ العديد من المرضى بالشفاء لفترة أطول من السرطان، وعُدَّ السرطان -حينها- مرضاً قابلاً للعلاج (4).
المصادر: