رقصة الحياة الأخيرة
كتاب >>>> روايات ومقالات
تبدو مارلين هادئةً متقبّلةً لفكرة موتها، ساعدها ذلك عبارة لنيتشه استخدمها إيرفن في كتبه تقول:"مت في الوقت المناسب"، فبعد حياة مليئة بالنجاحات والصداقات، والحُب العظيم الذي جمعها مع زوجها من المراهقة إلى الآن التي بلغت السابعة والثمانين، بعد رحلاتها في أنحاء العالم كافة، والإنتاج الفكري الذي قدّمته، وامتلاكها لأبناء وأحفاد رائعين، وعيشها بطريقة لا تندم فيها على شيء قط. بعد هذا تتسائل: أليس هذا هو الوقت المناسب للرحيل؟! وفي خضم معاناتها تلتقط أنفاسها لتسأل: "هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟!" وحين أدركت اقتراب الرحيل والفناء، وهي التي تشارك زوجها في الاعتقاد بأن لا حياة ولا وعي بعد الموت، تبحث عن التعزية وتسأل: "كيف يمكننا أن نحارب اليأس؟ كيف نعيش حياة ذات مغزى حتى النهاية؟"، فتجدها في "إيرف" الذي يتولّى رعايتها ويتسوق ويطبخ ويجلس معها ساعاتٍ طويلةٍ وهي تتلقى العلاج غائبةً عن الوعي، وتجدها في الأصدقاء الطيبين الذين يرسلون لها دعواتهم، وعبارات الشكر والامتنان، وهداياهم الخاصة، في العائلة التي تمتلكها في الأبناء والأحفاد، تجد التعزية في أن موتها يهمُّ أشخاصًا في مختلف أنحاء العالم، وتقرِّر أن تحتمل المزيد لأجلهم.
إيرفن، الذي ساعد مئات الناس على تجاوز محنة الفقد وكتب عديدًا من الكتب في هذا؛ ها هو الآن يواجه التحدّي الأصعب في حياته بعد تشخيص زوجته ورفيقته لأكثر من سبعين عامًا بورم نقوي متعدِّد، وبعد سلسلة من المعاناة مع العلاج الكيميائي الذي أثبت لاحقًا عدم جدواه، وافقت "مارلين" على استبداله بما يُعرَف بالعلاج المناعيّ شرط السماح لها أن تلجأ "للموت الرحيم" إذا ما فشِل هو الآخر. للمرة الأولى يواجه "إيرف" الحقيقة بأنّ "مارلين" ستموت، لكنّه مايزال لا يستطيع تخيّل حياته دونها "كما لو أن التفكير في مستقبلي دون مارلين خيانة _تصرّف خائن قد يعجّل في موتها"، هو الذي امتلك الشجاعة من قبل وأخبرها بأنّ باسطتاعته إكمال حياته من بعدها وتستطيع وضع حدٍّ لألمها متى شاءت، يفزَع عند سماعها تقول:"إنّ الفكرة بأنّني سأتركك تحطّم كياني، لكن حان الوقت يا إيرف. أرجوك، يجب أن تدعني أذهب" "أرجوك لم أعد أريد المزيد. لا أكثر. لا أريد أن أعيش" يرفض حقيقة فقدانها ويبحث عن تعزية دون جدوى، يفكّر في وضع حدّ لحياته، لكن ألن يكون هذا خيانةً لعمله ولمرضاه جميعهم، ولأبنائه وأحفاده أيضًا، يرجوها أن تستمر أكثر، يمنِّي نفسه بأنها ستعيش أكثر إذا ما اشترى أربعين ظرفًا من الشاي الذي تشربه. كيف يعيش دونها وهي مرتبطة بتفاصيل حياته كلها، وذكرياته جميعها. هي لن تلبث أيضًا أن تُصبح ذكرى، حيّةً في ذاكرته فقط، وما إن يموت هو أيضًا حتى تختفي تمامًا "شعرتُ أن كلّ شيء يتلاشى. الموت يلتهم الحياة كلها، الذاكرة برمتها".
يُذعِن "إيرف" لرغبة "مارلين" وتتناول الأدوية المميتة لترحل بهدوء وسط أبنائها الأربعة وزوجها، في نوفمبر من عام 2019
"وضعتُ رأسي بجانب رأس مارلين، ركّزت انتباهي على تنفسها، أراقب كل حركة تقوم بها، وبدأتُ أحصي أنفاسها بصمت، بعد نفَسها الضعيف الرابع عشر توقفت مارلين عن التنفّس"
يكمل إرفن يالوم كتابة فصول الكتاب وحده، ويواجه الحياة دون "مارلين"وحده مع عكازه والقطعة المعدنية في صدره. يشعر بالخدر، والفراغ والعزلة ويصيبه الاكتئاب، وحيدًا في المنزل "كفرد بالغ مستقلّ" لأول مرة، يشعر بأنّ كل شيء أصبح غير حقيقيّ؛ إذ كيف يكون حقيقي مالم تعرفه "مارلين"، يجد بعض العزاء في إعادة قراءة روايته "علاج شوبنهاور" التي كان قد نسي معظمها، يصف مشاعره ورحلة شفائه بدقة، وفي الختام، وهو العالِم المُشكِّك، يتخلّى عن عقلانيته ويكتب لها رسالة، ويخبرها أنه يرتاح لفكرة الانضمام إليها.
يجعلنا هذا الكتاب نواجه الموت بشجاعة أكبر وقلق أقل، ويعلمنا إيرفن ومارلين أن نستمتع بالحياة وأن نكون جريئين نفعل كلّ ما نرغب به؛ كي لا نندم في نهاية المطاف، وعندما يحين "الوقت المناسب" نكون قد أتممنا مهمتنا ونغادر بسلام واطمئنان وسط أحبائنا.
اقتباسات:
"الحزن هو الثمن الذي ندفعه لقاء شجاعتنا كي نُحِب الآخرين"
"سألتني سؤالًا جريئًا (يقصد إحدى مريضاته): كيف تتدبر أمرك وأنت في الثمانين من عمرك، وتشعر بأن النهاية تزداد قربًا؟
فأجبتها: تتبادر إلى ذهني إحدى ملاحظات شوبنهاور الذي يقارن فيها شغف الحُب بالشمس الساطعة التي تُعمي البصر. فعندما يخفت نورها في السنوات الأخيرة فإنّنا نرى السماء الرائعة المليئة بالنجوم التي حجبتها الشمس"
"لا تترك للموت سوى قلعة محترِقة" زوربا
معلومات الكتاب
الكتاب: مسألة موت وحياة.
الكاتب: إيرفن يالوم_ مارلين يالوم.
المترجم: خالد الجُبيلي.
عدد الصفحات: 318
دار النشر: دار ابن النديم للنشر والتوزيع