هل التخاطر علم حقيقي؟
منوعات علمية >>>> العلم الزائف
هذا هو موضوع بحثنا
إنه لمن المحتمل أن معظم علماء النفس بل وعملياً كل علماء الأحياء يعتبرون أن الدليل الذي يدعم "الاستبصار" و"التخاطر" ليس له أي قيمة من الناحية العلمية، وساذج إلى أبعد حد، و على الرغم من تلك الحجج المستخدمة من قبل اولئك الحريصين على إعطاء شيء من الاحتمال لنتائج الاختبارات المفترضة، إلا أن عدداً قليلاً من العلماء هم على استعداد لمناقشة أو حتى النظر بجدية لتلك الموضوعات مقارنة بغيرهم من متسوّلي الألقاب.
إنه لأمر مؤسف، و الناس عرضة لاستخلاص نتائج خاطئة من جرّاء رؤيتهم للتصريحات المتكررة في الصحافة الشعبية التي تتصدر تلك الموضوعات بلا منازع.
قام د . إدجار ميتشل بالاشتراك مع وكالة ناسا بتمويل تجربة على شاب مشهور ظهر على التلفزيون البريطاني ليقوم ببعض الأفعال الخارقة عام 1973، ومن بين تلك الاختبارات كان اختبار التخاطر الذي أشرف عليه عالما الفيزياء (أوراسل تارج، وهال بوتهوف) و كان الاختبار يعتمد على بقاء جيللر في غرفة من المعادن العازلة وبجانبه هيئة الاختبار في غرفة مجاورة وعلى بعد 450 متر يجلس العالمان في غرفة للقيام بالتجربة.
اعتمدت التجربة على 13 محاولة مقسمة لأربع بنود:
البند الأول: أن يتم اختيار أربع صور عشوائياً من قاموس، حيث تعرّف جيللر على صورتين ولم يتعرّف على الصورتين الباقيتين.
البند الثاني: تم اختيار مجموعة من الصور الغير معروفة اطلاقاً لدى الشاب، فلم يتعرّف على أية صورة إطلاقاً.
البند الثالث: ثلاث صور متفق عليها قبل بدء التجربة، و رسم جيللر صورتين ولم يكمل الثالثة.
البند الرابع: صورة تم عرضها على شاشة أشعة اكس و تعرّف عليها جيللر، الثانية تم تخزينها في ذاكرة الكترونية ولم يتعرّف عليها، الثالثة رسم كاريكاتيري تم عرضه على شاشة لبضع دقائق، تعرّف عليه بشكل جزئي.
و قد اكتسب هذا البحث أهمية خاصة عندما تم نشره في مجلة "الطبيعة" البريطانية المجلد 251 صفحة 602 عام 1974. وهي مجلة متخصصة في البحوث العلمية واسعة الانتشار جداً في أوساط العلماء، و ربما هذه أول مرة تقبل المجلة نشر مثل هذه البحوث بها وربما يرجع ذلك للثقة بالعالمين الفيزيائيين سالفي الذكر، كما أنهما أجريا البحث في أكثر المعاهد العلمية شهرة وثقة.
ولكن: دعونا نفحص هذه الادعاءات، فهل تشير حقاً لوجود قوى خفية؟
يجب أن نعلم أولاً أن العالمين الفيزيائيين يعتنقان الروحانيات ويعتقدان بها، و مما يدعم هذه الفرضية أن البند الثاني قد تم اختيار صوره بواسطة مجموعة من الناس لا علم لجيلر بهم، وبالتالي "لم يتعرّف جيلر على صورة منها" وذلك يضعنا أمام احتمالية أن من أجروا التجربة ربما تعاطفوا مع جيللر أو سهلوا له بطريقة ما معرفة الاختبارات.
في إحدى المجلات العلمية البريطانية new scientist يظهر موضوع متكامل عن تلك القصة قام بتحقيقها د . جوزيف هانلون (العدد 919 مجلد 64 تاريخ اكتوبر 1974) ومن أهم المآخذ التي ياخذها على تلك التجربة أن العالمين المذكورين لم يشركا معهما أحداً من اساتذة المعهد المحايدين.
ولكن هل يمكن للعلماء أن يغشوا في نتائجهم؟
للإجابة عن هذا السؤال نشرت مجلة نيو ساينتست نفسها (العدد 1016 مجلد 2- 71 ، سبتمبر 1976) ذكرت فيه حالات من تدليس العلماء لنتائج علمية لأغراض معينة، كما كانت تلك الحالات موضوعاً لمقال نشره الاستاذ الدكتور أحمد أبو زيد في مجلة عالم الفكر الكويتية (العدد الأول ، المجلد الثامن ، 1977) .
و لكي تقطع المجلة الشك باليقين حول جيللر و قواه الخفية تلك دعته لإجراء تجاربه تحت رعاية المجلة وحددت له مجموعة من العلماء الثقات (دينيس بارسون، كريستوفر ايفانز، برنارد ديكسون، جوزيف هانلون، د. ج . فيني، يوليوس جرانت، بالاضافة للساحر المرموق ديفيد بيرغلاس) و كانت النتيجة أن وافق جيللر بداية على الحضور ولكنه أخذ يماطل و يماطل حتى أعلم الجمعية أخيراً انه لن يحضر لأنه تم تهديده بقنبلة!
و من هذه التجارب:
تجربة جانزفيلد: و تتم عبر استخدام بطاقات زينر حيث تحتوي كل بطاقة على رمز معين ويقوم الشخص المرسل باختيار بطاقة عشوائياً ويقوم بالنظر إلى الرمز المرسوم ليحاول نقله ذهنياً الى الشخص المستقبل. وكما أسلفنا فإن هذه التجربة أثبتت بحسب زعمهم نسبة نجاح 20 %. ومع ذلك قاموا بتسميته علماً!
تجربة التخاطر عبر الهاتف: قام بها عالم نفس بريطاني يدعى (روبرت شولدراك) و هي أن يفكّر إنسان ما بشخص معيّن قبل أن يرن جرس الهاتف و يجده على الطرف الآخر فعلاً، و قام شولدراك بإجراء دراسة مسحية في جامعة كامبردج حيث توجه لسؤال عينة عشوائية من الناس فأجاب 76 % منهم أنهم مروا بهذه التجربة مرة واحدة على الأقل في حياتهم.
بالطبع كثيرون هم من سيؤكدون ذلك – وأنا واحد منهم – و لكن هل هذا إثبات كافٍ على أن التخاطر علم حقيقي موضوعي؟ من وجهة نظر أبستمولوجية فإن المعرفة الحدسية لا يمكن أن تقوم بدون أساس من التفكير الواعي ولكن تختلف درجته أثناء انبثاق الحلول، كأن يرهق الإنسان من التفكير بمشكلة ما فينحيها جانباً ثم فجأة و بعد بضعة أيام ينبثق الحل لوحده ودون التفكير بها في حينه، طبعاً لم يكن لهذا الحل أن ينبثق لولا أنه كان مسبوقاً بمحاولات تفكير واعية بالمشكلة، و كذلك بالنسبة لأية معرفة حدسية تكون غالباً مسبوقة بتفكير واعٍ بالشخص المتصل أو الذي يطرق الباب و لكن قد لا يكون هذا التفكير الواعي سابقاً مباشرة أو في حين حدوث الأمر نفسه.
و من أمثلة تلك الصحافة، ففي إحدى المجلات ذائعة الصيت نشر ما يتاجر بالعلم لصالح كسب الجمهور حيث نشرت مقالاً بتاريخ 28 آب 2013 على موقعها... تتحدث فيه عن التخاطر و تصفه بـ(العلم) و تسوق المصطلحات والأمثلة للإيهام بموضوعية وواقعية التخاطر. اقتبس عنها: (التخاطر هو أحد العلوم الإنسانية وهو علم يدرس الآن وبالذات في منطقة الصين وبدأ ينتشر إلى أوروبا وأمريكا)!
ولكن فلسفة العلم تخبرنا أن للعلم مقومات ثلاث يجب أن يمتلكها: (الموضوع – المنهج – الوظيفة أو الهدف) والسؤال: هل يمتلك التخاطر هذه العناصر حتى نطلق عليه لفظة العلم؟
من ناحية الموضوع : فموضوع التخاطر هو دراسة الطريقة التي تنتقل فيها الأفكار من شخص لآخر دون وسيط مادي، فالتخاطر استقبال للطاقة الصادرة من عقل أي شخص وتحليلها في عقل المستقبل، أي أنه يدرك أفكار الاخرين و يعرف ما يدور في عقولهم وأيضا باستطاعته إرسال خواطره وإدخالها في عقول الآخرين عبر مسافات بعيده.
و هنا السقوط الأول... فموضوع العلم يجب أن يكون مادياً إذا كنا نتحدث عن العلوم الطبيعية، و منطقياً إذا كنا نتحدث عن علوم عقلية، أما هنا في مسألة التخاطر تم الدمج بين القدرات الفردية "النادرة" مع مصطلح "الطاقة" الذي هو مصطلح فيزيائي يخص دراسة المادة في أحد أشكالها، و ذلك لإنتاج موضوع يراد له أن يكون موضع نظريات علمية، بالإضافة لإدخال المزيد من التشويهات – ولا نقول التحسينات – بالكلام عن الموجات الكهرومغناطيسية التي تختص بالنشاط الدماغي .. فلم يعد موضوع التخاطر محدداً بدقة مما سيؤثر بالتالي على المنهج الذي سيتم تناول موضوع التخاطر به.
المنهج: إن منهج العلوم الطبيعية يعتمد التجريب ووضع الفروض والاختبار للوصول للقانون الذي يفسر الظاهرة، أما في العلوم النظرية فالمنطق هو منهج التحقق من صحة الفرضيات والمقدمات المتعلقة به، أما في العلوم الإنسانية فأشهر مناهجها هو المنهج الاستقرائي والمنهج التاريخي ومنهج المسح ودراسة الحالة.
وهنا يكمن الخلل الأكبر للتخاطر، إنه المنهج، فإذا سلًمنا بأن منطلق التخاطر مادي كالطاقة أو الموجات الكهرومغناطيسية كما يزعمون فلا بد أن يكون المنهج علمياً تجريبياً يعتمد على الملاحظة والرصد، مع أن أجهزة الرصد والملاحظة لم تكشف بتاتاً عن اي انتقال كمومي للطاقة أو للموجات عبر الجماجم.
أما إذا سلمنا لهم بأن التخاطر علم إنساني فإن تجارب الاستقراء التي أجراها أنصار التخاطر أنفسهم تؤكد – هم من يقول ذلك – أنها نجحت بنسبة 20 %، و برغم أنهم يهرجون بأن هذه نسبة مرتفعة تبعد التخاطر عن كونه مصادفة، إلا أنها في الحقيقة تزيحه تماماً من كونه علماً، فبحسب منهج الدحض والتفنيد الذي وضعه كارل بوبر يرى أن بجعة سوداء واحدة تنقض فرضية أن يكون كل البجع أبيض. فما بالكم بأن يكون ثمانون بالمائة من البجع أسوداً ومع ذلك نرى من يتمسك بأن كل البجع أبيض هي فرضية مثبتة أو في طور الإثبات!
هذا إذا تغاضينا جدلاً عن إهمال أنصار التخاطر لأبسط قواعد التجريب أثناء إجراء تجاربهم... فيا ترى كم ستكون نسبة نجاح صدف التخاطر إذا ما أخضعناها لأقسى شروط التجربة العلمية؟ أعتقد أن 20 % ستكون نسبة مرتفعة للغاية.
أما عن المغالطات البيولوجية حول التخاطر فحدّث ولا حرج: و نحن نقول أنه قد يحدث تقارب في الشعور العضوي بين التوائم في وقت واحد ولكن ذلك ببساطة ينبع عن الوحدة الجينية لهما، فكلاهما يملك نفس المورثات وبالتالي فديناميكية الخلايا لديهم ستكون متشابهة، أما عن التشابه في التفكير والأحاسيس والعواطف وخلافها فعلى فرض صحة هذه المزاعم فهي تعطي دليلاً للأساس الجيني للمشاعر وليس على الأساس الجيني للتواصل اللامادي بين التوائم.
وبحال لم يكن الشخصان توأماً ولكنهما كانا متقاربين اجتماعياً فالتفسير الأقرب أن التجارب والخبرات بين الشخصين تقرّب فهمهما لبعضهما بدرجة كبيرة، و من منا لا يملك في حياته شخصاً يفهم مقاصده من نظرة واحدة، و كلنا يعلم أن مردّ ذلك هو التفاهم والأسرار المشتركة والبوح بالمشاعر وغيرها و ليس الى انتقال اشارات كهربية عبر الجماجم.
و تقول د . نانسي سيغال الباحثة في شؤون التوائم في كتابها Entwined lives "لا يوجد دليل على أن التشابه الذي نجده عند التوائم سببه التواصل الذهني بينهما" وتوافقها بذلك د . ايلين بيرلمان بقولها "لا يوجد دليل علمي يدعم فكرة وجود قدرات حسية فائقة لدى التوائم.
أما التذرّع بحادثة مروية تاريخياً عن أحد الخلفاء حين نادى بقائد جيشه عن بعد آلاف الأميال أن يسلك طريقاً آخر غير الذي يسلكه كي لا يحاصره جيش العدو بأن ذلك يثبت ما يسمى بالتخاطر فهذا يسمى اتجاراً بالشخصيات التاريخية وأسمائها لإرغام العلم على الرضوخ للميتافيزيقا – و هذا مشاهد بكثرة في التخاطر وغيره – و من ناحية أخرى فكلنا يعلم أن التاريخ هو المسرح الأكبر للأكاذيب وأن تصديق الروايات التاريخية يعتمد بالدرجة الأولى على مدى التقديس لهذه الشخصية أو تلك.
أما من الناحية الوظيفية: فيتمثل هدف التخاطر برصد الظروف والقوانين التي تتحكم بهذه الظاهرة، فهل يا ترى نجح التخاطر بوضع قانون واحد يقيني حتمي يمكن أن نفسر من خلاله هذه الظاهرة ويمكننا من إجرائها تحت ظروف معينة للحصول على نتيجة حتمية؟ لكم الجواب...
الخلاصة : التخاطر لا يمتلك أدنى ما يؤهله لكي نطلق عليه لفظ العلم، أو بأفضل الأحوال لن يكون سوى علماً زائفاً، فكيف لعاقل أن يساوي بين نتائج التخاطر ونتائج تجربة تمدد المعادن بالحرارة؟ أكلاهما نظريات علمية! أو أن نساوي بين يقينية التخاطر و يقينية تساوي أقطار الدائرة!
لأن نوجه اهتمامنا لتطوير وسائل الاتصال كالإنترنت والاقمار الصناعية وغيرها لجعل العالم أصغر والمعلومة أسرع لخير من أن نضيع وقتنا وجهدنا في السعي وراء خرافات تلبس ثوب العلم... كالتخاطر على سبيل المثال لا الحصر.
المصادر:
Sunday Times، March 13، 1938.
Bulletin 3. University of London Council for Psychical Investigation.
NATURE، 141، 565 (March 26، 1938).
www.nature.com/nature/journal/v141/n3576/abs/141878a0.html
هنا
هنا
كتاب كارل بوبر : منطق الكشف العلمي ، ترجمة الدكتور ماهر عبد القادر محمل علي ، دار النهضة العربية ، بيروت ، ص115 حتى 132 .
د. عبد المحسن صالح : الإنسان الحائر بين العلم و الخرافة ، مجلة عالم المعرفة ، العدد 15 ، الكويت ، 1979 ، ص125 و ما بعدها.
مصدر الصورة: هنا