الإدمان والدماغ .. قصة ما زال فيها الكثير
البيولوجيا والتطوّر >>>> بيولوجي
وربما يتعين علينا أن نرى الإدمان على أنّه مزيج من المحفزات البيئية والمورثات الضعيفة. ومن الممكن أن يكون مجرد استجابة غير مناسبة للتوتر والإجهاد، حيث قد تدفعنا الأيام السيئة إلى أحضان السجائر أو الكحول أو المخدرات.
لايمكننا نفي حقيقة أنّ كلّاً من هذه الأفكار يملك جزءاً من الحقيقة، ولكن في الواقع فإنّ الإدمان ناتج عن هذه التأثيرات مجتمعة، وربما أكثر. فالإدمان هو عرض لقدرة الدماغ المذهلة على التغيّر، وهو ما يسمى باللدونة Plasticity، فهو يعرض ما نعرفه وما لا نعرفه حول قدرة الدماغ على التكيف على كل ما نلقيه عليه.
يقول عالم الأعصاب جورج كووب George Koob، مدير المعهد الوطني لتعاطي الكحول والإدمان على الكحول في ولاية ماريلاند : "يعتقد الكثير من الناس أنّ الإدمان هو ما يحدث عندما يجد شخص أنّ مخدراً ما هو أفضل ما مر عليه في حياته. إلّا أنّ تعاطي المخدرات ليس مجرد شعور جيد حول التعاطي، إنّما يتم تغيير عقلك عند استخدامك للمخدرات، بحيث يقود هذا التغيير إلى تفاقم المشكلة في التعاطي والإدمان".
تؤثر التغيرات المرتبطة باستخدام المخدرات على كيفية استجابة المدمنين للمخدرات، مثل رائحة السجائر أو على رؤية كأس الشراب. كما يغير تعاطي المخدرات أيضاً رغبة الدماغ لأشياء أخرى تحفّز نظام المكافأة مثل المال أو الطعام، ويؤدي خفض القيمة النسبية لهذه الأشياء.
في الماضي، وقبل أن يبدأ الباحثون بالتركيز على تغيرات الدماغ على المدى الطويل، قاموا بالتركيز على الدوبامين، وهو ناقل كيميائي في الدماغ يتم تحريره من الخلايا العصبية ويلعب دوراً هاماً في التحكم بالحركة، لكنه يزيد أيضاً استجابة لأشياء ممتعة ومحببة مثل الطعام أو الجنس أو المخدرات.
يوضح بول كيني Paul Kenny، طبيب الأعصاب في كلية الطب Icahn School of Medicine at Mount Sinai في مدينة نيويورك: "اعتقدنا بدايةً في منتصف الثمانينات أنّ تأثير المخدرات الممتع ناتج عن أنّ جميع المخدرات المسببة للإدمان تزيد إفراز الدوبامين في الدماغ".
ولكن أن نقول أنّنا أصبحنا نفهم الإدمان لمعرفتنا بأنّ المخدرات ممتعة لأنها تزيد الدوبامين يعتبر تسرّعاً في الحكم على النتائج. حيث أظهرت أكثر الأبحاث أنّ الدوبامين ليس مقياساً للمتعة ولكنه قد يكون مقياساً للقيمة.
ولكن هذا لا يعني أنّ الدوبامين ليس له مكان في الإدمان. فعندما يأخذ شخص ما المخدرات مراراً وتكراراً، تكون استجابة الدوبامين وغيره من النظم في الدماغ بالتكيف مع وجود هذه المخدرات، وهذا مثال عن اللدونة. حيث يتغير تركيز المستقبلات التي تسيطر على الاستجابة للمواد الكيميائية كالدومابين، كما تتغير قوة الاتصالات بين خلايا الدماغ وبين المناطق المختلفة من الدماغ سواءً نتج عن ذلك تقويتها أو إضعافها، ونجد أيضاً نقصاناً في عملية إنشاء خلايا عصبية جديدة.
من البديهي أنّ تكرار فعل العادة السيئة سيقود إلى أضرار متأصلة ودائمة. ولكن يبدو أن لتأثيرات التعرض الأول أهمية كبيرة، حيث تؤدي إلى سلسلة من التغيّرات المؤثرة على خلايا الدماغ ومستقبلاتها التي تصلها مع بعضها.
كما لاحظت شانون غورلي Shannon Gourley، عالمة الأعصاب في جامعة ايموري في اتلانتا أنّ بعض التغيّرات تسرع عملية الاعتياد وتشكيل العادات، وهو شكل من أشكال التعلم. و يمكن لهذه العادات أن تكون شيئاً جيداً أو سيئاً، فأن تعتاد تفريش أسنانك يعني أنك يمكن أن تركز على أمور أخرى عند قيامك بهذه العادة. ولكن العادت قد تكون غير بناءة إن كانت العادة هي تعاطي مخدر ما مثلاً.
كان التعلم محط تركيز أبحاث الإدمان لأكثر من عقد من الزمان. وحسب عالمة كانت من رواد فكرة الإدمان كشكل من أشكال سوء التعود، أيّ أنّ الدماغ يتعلم بشكل مختلف بوجود المواد المسببة للإدمان، فإنّ التعلم مصطلح واسع جداً.
لنفرض مثلاً أنّ شخصاً ما يتعلم ركوب الدراجة وفي الوقت نفسه بداً بتعاطي الكوكائين، فقد يؤدي الكوكائين عندها إلى تأثيرات أقوى في دماغ هذا الشخص، إلّا أن سلوك التعلم يكون متشابهاً للاثنين في بعض المستويات. وولكن عند تعرض الشخص في المستقبل لشيء متعلق بالكوكائين أو قيادة الدراجة فسوف يسترجع ذكريات معينة، وكان السؤال الأهم: "ماذا سيفعل الشخص بما يسترجعه من ذكريات؟"
الفرق الحاسم يكمن في سهولة ترجمة هذه الذكريات إلى عمل. وهكذا، في حين قد تكون ذكريات أيام ركوب الدراجة مجرد ذكريات لطيفة، تؤدي الذكريات المرتبطة الكوكايين إلى الرغبة الشديدة لتجربته مجدداً.
فمن ناحية التعلم والتغيّرات في الدماغ، فإنّ جميع الاضطرابات السلوكية متشابهة تماماً. ولكن المشكلة مع الإدمان هي أننا ما زلنا لا نفهم ما تقوم به الاتصالات في الدماغ.
كما تزيد الوراثة من تعقيد الإدمان واضطرابات أخرى، فقد تجعل بعض الجينات بعض الناس أكثر عرضة للإدمان عن غيرهم. وفوق ذلك، تزيد الاختلافات الوراثية تعقيداً عند احتساب تأثير البيئة والضغوط التي يتعرض لها الناس طوال حياتهم.
ومع الوقت، يحاول العلماء معرفة كيفية اختلاف أدمغة المدمنين عن غيرهم من غير المدمنين. تقول ريتا غولدشتاين Rita Goldstein، وهي باحثة في التصوير العصبي للإدمان، بأنّ فكرة الناس عن الإدمان مبسطة جداً، كما لو أن اختباراً للدم أو البول قادر على تحديد إن كان الشخص مدمناً أم لا. كما أنّها لا تعتقد بإمكانية وجود اختبار واحد دقيق تماماً للكشف عن مثل هذا الاضطراب المعقد.
إلا أنّها تلاحظ وجود انخفاض في كمية المادة الرمادية في دماغ المدمنين، وذلك في مناطق مهمة لعمليتي التعلم والمكافأة. كما يُلاحَظ بعض العجز في عملية صنع القرار والوعي الذاتي العاطفي حتى عند غياب المخدرات.
ولكن يبقى السؤال، "هل كانت هذه المشاكل موجودة قبل تطور الإدمان أو أنها تطورت معه؟"
الإدمان ينطوي على اللذة والألم، والتحفيز والاندفاع، وله جذور في علم الوراثة والبيئة. كل مدمن مختلف، وهناك العديد والعديد من الأشياء التي لا يعرفها العلماء حتى الآن. ولكن هناك شيئاً واحداً مؤكداً وهو أنّ التفسير الوحيد الشامل للإدمان هو أنّ الدماغ يتكيف مع بيئته، وهذا التكيف يكون على عدة مستويات، سواء كان بالتعلم أو بالمكافأة.
وبالتالي عندما يكون السؤال هو كيف يجب أن نفكر في الإدمان، سيكون الجواب من كل زاوية ممكنة.
المصدر:
هنا